امريكا فى المخيلة العربية والافريقية عبء يضاف الى اجندة الموبقات، هكذا تشكلت فى الذهن، ونحن نستقبل عبر الاعلام اخبار الغزو وانباء الصلف واحزان غوانتنامو ومآسي العراق وافغانستان واستهداف السودان وسوريا. و(امريكا السياسية) فى الذاكرة الناطقة بلغة الضاد امبراطورية عنجهية منزوعة (الدسم والقيم)، موصومة بكراهية المسلمين والعرب ومنحوتة فى مخيلتهم المهزومة والمأزومة بدم المجازر وطغيان الفكرة الاستعلائية وارهاب الانظمة والحكام. ولكن ما ان تدخل هذا البلد حتى تستشعر الفرق بين امريكا الرسمية والولاياتالمتحدة كبلد يجسد قيماً انسانية باذخة الثراء تجعلك فى حالة انفصام تام حيال صورة المخيلة -التى تجعل امريكا رجساً من عمل الشيطان- ونسخة الواقع الماثلة امام عينيك. ---------- هي امريكا التى طالما بشرتنا الانظمة العربية بدنو عذابها وارفقتها مع الشيطان فى دوامة اللعنة وقاموس الاستياء المطلق. هذه الصورة الارهابية المرعبة شكلت مكونات التأمل فى مخيلتي (المعطونة) فى وحل الارتياب من كل ما هو امريكي، وانا اهم بزيارة (الدنيا الجديدة) موفدا لتغطية اعمال الجمعية العامة للامم المتحدة فى نيويورك بعد الحصول عبر البعثة السودانية هناك على فرصة نادرة لتغطية هذا الحدث، فكثيرون اخبرتهم بنيتي السفر الى هناك شككوا فى (عمالتي) باعتبار ان الحصول على تأشيرة لزيارة امريكا من الخرطوم امر لا يتوافر الا لذوى الحظوة الذين يصطلح عليهم ب (العملاء) فى البلدان العربية، وربما كان هذا موضع (ازمة اخلاقية) افرزها توجسنا الزائد من هذا البلد. فامريكا التى زرتها لا يمكن اختزالها فى كونها (انموذجاً متطوراً لتكنولوجيا مدهشة)، اذ انها جسدت فى خاطرتي مجموعة قيم انسانية رعاها تطور التاريخ البشري فى بلد انشأته الاقليات وبدأ بالتفرقة العنصرية لينتهي اليوم الذى اكتب فيه هذه المادة بدخول رئيس اسود للبيت الابيض، وهذا وحده يكفي للتدليل على تجربة انسانية جديرة بالتوثيق والاحترام. فأمريكا المطعونة فى شرفها باقترافات الجمهوريين وذنوب جورج بوش وسيئات الحرب الصليبية لا تشبه بأي حال من الاحوال سماحة شعبها ورقيه الراسخ وفق منظومة قيم جعلته يرسخ فى مسام التاريخ بالحضارة والريادة، وذلك امر مستحق وغير مستغرب بعد ان اخذ بأسباب التقدم والعلم وحاز على دولة تقنية حديثة وجدتها (اون لاين)، فالحياة بأسبابها وتفاصيلها وخدماتها فى (جهاز اللابتوب) الذى باتت خدمته تزاحم الاوكسجين فى فضاء المسكون بالتقنية والتطور. الرهبة التى دخلت بها امريكا لم تبارحني وانا اتعرض للتحري فى مطار نيويورك بسبب دولتي المصنفة ضمن الدول الراعية للارهاب وربما ساءني هذا الامر فى بادئ الامر، لكنه لم يسلبني حيادية صحافي يروي الاشياء مثلما شاهدها، فأمريكا الشعبية دولة تستحق الانصاف غير ان السياسة الرعناء للرئيس جورج دبليو بوش وحاشيته من الجمهوريين هي التى وضعتني فى هذا الاستجواب. اجراءات التفتيش التى تعرض لها ركاب الطائرة كانت تهيئني لعدم المفاجأة من اي اجراءات قادمة.فالتفتيش طال (كل شئ) ولا احد يستنكف من شئ ربما لان شهد الدخول الى هذه الدنيا يهون عليك ابر النحل، فعدد من العرب والاجانب الذين رافقوني فى الطائرة كانوا يحسون بقيمة اضافية وهم يتأهبون لدخول امريكا (جنة الديمقراطية ومنارة حقوق الانسان) ربما فالجميع يخلعون ما عليهم من ملابس (اضافية) (الجاكيت والبدلة) وما شابه ولا يستنكفون من خلع الاحذية الآن على اعتاب الدنيا الجديدة، وقد فعلت مثلهم تماما غير ان لون الجواز الذى احمل هيأني للصبر والاحتمال وتقبل القادم. (لعن الله السياسة) فهي التى وضعتني امام عناصر ( الأف. بي. آي) فى مطار نيويورك لمقارنة البصمة والملامح والاستفسار عن جوانب شخصية تتعلق بالعمل والاسرة وطبيعة الزيارة، وقد كنت وحدي من دون عباد الله المسافرين الذى اتعرض لمثل هذه الاجراءات، غير ان المتحرين كانوا يمنحونني احساسا باعتيادية الاجراء ، لان مواطني الدول (خشم بيوت) فى سياسة الجمهوريين التى ادخلت قبلي العالم فى جحر ضب ولكنها امريكا الرسمية التى انتهت علاقتي معها بالدخول الى مدينة نيويورك يملؤني الاستياء. من استقبلني فى المطار اخبرني بمعلومات وثقتها من جهات رسمية خففت ما لاقيت كثيرا تقول ان قائمة من شملهم الاستجواب من قبلي ضمت د. لام اكول حينما كان وزيرا للخارجية والسيد الامام الصادق المهدي فى وقت سابق من هذا العام ولم تسلم منها حتى سناء التى تعاطف مع ماساتها العالم وذهبت الى الدنيا الجديدة تطلب العلاج وشخصيات مهمة اخرى. الولاياتالمتحدة فى ظل ادارتها التى رفعت شعار التغيير مطالبة باستبدال هذه الصورة السالبة فى التعامل مع السودانيين، فتعقيدات السياسة ينبغي ان لا تؤثر على حريات مدنيين حصلوا على تأشيرة الدخول بعد صبر طويل. ربما دار كثير من الحديث فى امريكا حول اكبر خطأ تاريخي اقترفه الجمهوريون وعجل برحيلهم عن السلطة وهو تجنيهم على القيم الامريكية التى صاغت منظومة هذا المجتمع وجعلت منه انموذجاً خالداً للشفافية الديمقراطية واحترام حقوق الانسان وكثير من القيم التى بحثنا عنها فى بلاد المسلمين ووجدناها فى امريكا.. وهذا حديث فى حلقة قادمة.