مرحباً بأيام رمضان وما فيها من ذكر وشكر وروحانيات واقبال على معالي الامور. مرحباً بالشهر الذي نزل فيه القرآن الكريم، الكتاب الذي يعطي الحياة معناها ومبناها، ويعطي المسلم الطمأنينة والخشوع والسعى لامتثال حكمة الله في الخلق. وأين كان سيكون المسلم لولا القرآن الكريم، الذي يشكل عقل المسلم والذي هو المرجعية والبوصلة الهادية إلى الصراط المستقيم. واسم رمضان نفسه، مشتق من الرمض ، كناية عن المشقة وشدة وقع الشمس على الرمل وفي حديث (صلاة الأوابين إذا رمضت الفصال من الضحي) راجع معجم الصحاح «الجوهري» (ص427) أي في شدة الحر حينما تحس الأنعام التي فطمت عن الضرع بالحر. وربما اكتسب هذا الشهر اسمه، أنّه شرع في الأشهر الحارة، لأنهم سموا الشهور بالأزمنة التي وقع فيها والإ فإن رمضان قد يأتي في الشتاء وقد لا يكون مصحوباً بالحر ولكن يكون مصحوباً بالجوع إذاً فهو من الناحية المادية أيامه أيام شدة ولكن من الناحية المعنوية ساعاته ساعات خير وبركة ورحمة. ويعرف الصوم بأنه الامتناع عن شهوتي البطن والفرج أي الأكل والشراب والجنس ومتعالقاتهم من الفجر إلى مغيب الشمس، ولكن هذا هو الحد الأدني المطلوب، والإ فالصوم سعي للكمال ومشروع للترقي الروحي والاستعانة بذلك على حرمان الجسم نسبياً من مطلوباته إلى حين، ونهى الرسول (صلى الله عليه وسلم) عن الوصال أي مواصلة الصوم إلى ما بعد مغيب الشمس أو إلى اليوم أو اليومين ، تحسباً من الفتنة وتجنباً للضرر الناشب من حرمان الجسم من مطلوباته، لأن جسم الإنسان مصمم على تحمل قدر معين من العطش والجوع، لأن ذلك إن زاد قد يؤدي إلى هلاك أو إعطاب، والحرج مرفوع في الشريعة ، أي أن ما يقود لضيقٍ أو عنت لمريض أو كبير أو مسافر أو حامل أو غيره من الحالات المماثلة. وهناك بدائل للصوم منها القضاء أو الفدية. وشهر رمضان شهر لا تنقضي عجائبه، ففيه يتم توحيد سلوك الأمة، حيث تنقطع الأمة عن الأكل والشراب، والتوحيد والتماثل في رمضان أوسع مما يحدث في الحج، لأن رمضان يؤطر كل حركة الأمة أكلاً وشراباً وعبادة وارتياداً للمساجد وإنفاقاً. بل ورمضان محاولة للتشبه بالرب ولن يستطيع إنسان أن يتماثل أو يتشبه به ولكن هو سعى ومحاولة للتشبه النسبي مع صفات الحق بعظم النفس عن مطلوبات الجسم والإبحار جزئياً مع أشواق الروح. ولن يستطيع إنسان الإفلات من مطلوبات الجسد ولكن يكفيه الإحساس النسبي بأن الزمان موهوب للعبادة وأنّه مخلوق متعبد وانه يحترق نسبياً في مشروع روحي. وزمان رمضان زمان لكسر سلطان التبلد والروتين والإلف والعادة كما فيه إشعار واشهار بمحدودية طاقة الإنسان وقدراته على تجنب مطلوبات الجسم . والصوم يجلب الطمأنينة والتؤدة، كما أن رمضان جسر محبة وتواصل للآخر ورفده بالطعام والرعاية. أما الليل في رمضان فله معاني جليلة ولطيفة، لأنه يصبح محاولاً للوصول للرحمن الرحيم واحتراق في سبيل الرحمة والمغفرة وحب الله بالذكر وينقلب الليل إلى صحو روحي بالتهجد والتعبد والتقرب. وصفد شياطين النفس في رمضان وأعدى أعداء الإنسان نفسه التي بين جنبيه - ومن ينجح في لجم نفسه هو الكاسب، ومن ينجح في تطويع نفسه وجعلها صديقة ومواتية لمرجعياته الروحية والفكرية فقد نال الجائزة، لأنه بذلك يوحد الظاهر مع الباطن دون نفاق أو انفصام، لأن هذا الدين يسعى للتوحيد وتوحيد مطلوبات الجسد ودمجها في أشواق الروح خطوة مباركة في التصالح مع الشرع والعقل والنفس ومزاوجة لمصالح الفرد في مشروع الجماعة وسعى لاكتساب الجائزة الكبرى التي يقوم عليها التوحيد.. نسأل الله أن يجعل كل أهل القبلة أهل توحيد وعرفان.