وصل الصف إلى البوابة، عند وصول أمنية، وزميلاها الإثنان من الأطباء، المرضي والآباء يفترشون الأرض، ينتظرونها، هي وزملاؤها، كان ذلك يوم الثلاثاء، اليوم المخصص للعيادة الخارجية لدار شيشر للاطفال من داخل الدار وخارجها، من الخرطوم ومن قراها البعيدة، أمنية تركت عربتها قرب الباب، تحت لافتة ضخمة تشير إلى دار شيشر بالعربية والإنجليزية. كان ذلك في شهر يناير وأمنية تشعر بالحيوية والنشاط حيث نادراً ما ترسل الشمس اشعتها اللاهبة في مثل هذا الوقت من العام. كانت ترتدي سترتها الصوفية السوداء. التي تناسبها وتقاطيعها تبدو بارزة، عيناها وأنفها، وطريقتها في الحديث. شابة حديثة التخرج ما زالت في فترة الإمتياز تتدرب علي تجبير وعلاج أعضاء الأطفال المشلولة. يوم الثلاثاء هو اليوم المفضل عند أمنية، مقارنة بالأيام المزدحمة والمزعجة الأخرى في العمل اليومي للمستشفى. وأمنية تستمتع وهي تقود عربتها إلى دار شيشر التي تقع في حي من أرقى أحياء العاصمة في هذا الحي الذي بني في عهد الاستعمار الإنجليزي كمنازل وسكن لأساتذة الجامعة الجديدة. أغلبها منازل واسعة رحبة، ذات طابق واحد، وحديقة مورقة وأحجار الحصى ترصف الطرق الجانبية المؤدية إلى المنازل، وسياج كثيف من الأشجار يفصل بين المنازل وكعب حذاء أمنية يحدث طقطقة بإصطدامه بالحصى والحجارة، وهي تمر بالصف الممتد. الشتاء جعل بشرة الواقفين في الصف كالحة وجافة، والشمس الساطعة جعلت ألوان ملابسهم باهتة اللون. بدأوا يتحركون وقد رأوها وهي تخطو على الممر. ملأهم الأمل، بأن محنة كل واحد منهم ستزول بظهورها، شعرت بالسعادة لهذا التأثير العاطفي فيهم. وهي تدخل عبر هذا الممر شعرت بالسعادة، أشعرتهم بسعادتها، فالتفتوا مبتسمين، وقف رجل عجوز متكئاً على أكتاف ابنه وهو يحييها، قالت له هل انت والد حسن؟ لقد سألت عنك في الاسبوع الماضي. أعتقد بأن حسن يجب ان يغادر المستشفى إلى المنزل الآن. هل ستأخذه معك اليوم؟ لو إنتظرتني حتى آخر اليوم سأعطيك بعض المساعدة. كانت تتكلم بسرعة دون ان تنتظر إجابته، في هذه الأثناء كانت تمسك بيد إبنه وتداعبها. حسن في السادسة من عمره وسيم ذو عينين واسعتين ولامعتين، شعره أجعد وكثيف كانت تحبه بطريقة الفتاة الشابة التي لم تعرف الأمومة بعد. سألته، هل تناولت إفطارك يا حسن، كانت دائماً ما تسأله هذا السؤال. لأنها كانت تحب طريقته في الإجابة وهو ينطق هامساً «الحمد لله» فهو لا يقول نعم أبداً. فنعمه دائماً هي الحمد لله كما يقل الكبار وهي بهذه الإجابة لا تتأكد من أنه تناول الفطور فعلاً أم لا فليس بعد الحمد إجابة، اليوم وهي تعبر باب الدار شعرت، كما ان والد حسن كبير السن فقير ومسحوق. صاحت في سكينة وهي تنادي بالداخل هل لديك فازلين لحسن، فجسده متشقق من البرد، سكينة هي التي تعتني بالأطفال في الدار، تعيش هنا، وتذهب لمنزلها في عطلة نهاية الأسبوع. فكرت سكينة بأن حسن حالة خاصة وليس كبقية الأطفال فهو هادئ ومؤدب، فعندما يُتلي القرآن في الراديو كانت تخبر أمنية أن حسن يترك لعبه ويستمع بأدب وشغف. أمنية تميل إلى ان تكون أكثر سخرية وهي تعتقد بأن حسن يحاول ان يعوض عجزه بهذه الحيوية والمرح. فهو ما يزال صغيراً يافعاً، وعندما يكبر قليلاً سيتألم وهو يعرف بأنه لن يستطيع ان يكون سائقاً ماهراً لعربة نقل ضخمة أو يتزوج بفتاة حسناء. بين فترات الإستراحة من الكشف علي المرضى، يتناول الأطباء الشاي. ألا تريد مزيداً من السكر دكتور موسى؟ على العموم توصيات الحكومة بالاقلال من الاستهلاك. صمتت أمنية عندما وضع رئيس الأطباء ثلاث ملاعق من السكر في كوبه وهو يقول ثلاثة ليست كثيرة، كان يتكلم وهو ينفض رماد سيجارته في المنفضة قال وهو يواصل حديثه على كل حال فإن هذه الأوامر الجديدة شاذة وسخيفة، ولن يعتمد كثيراً وستثبت فشلها، سينساها الناس. قال دكتور فريد أعتقد بأن الحكومة جادة هذه المرة، فالحكومة لا تملك المال لتستورد به السكر. وترشيد الاستهلاك يمكن ان يكون مجدياً خارج العاصمة في الاقاليم وليس هنا. لم يكن هناك وقت لدكتور موسي ليكمل حديثه، فقد دخل حسن ووالده، وبدأ الأطباء الثلاثة في فحص رجله المعطوبة الضائعة، فقد أصبحت مشلولة من وسطها وهي نتيجة لإصابته بداء شلل الأطفال وهو في سن الثانية. وقد إتفق الأطباء ان المسامير الحديدة التي رُكبت له كافية، وليس هناك داعٍ لبقائه في الدار فترة أخرى. قادت أمنية حسن ووالده إلى منزلهم ركب كلاهما خلف العربة فهم يسكنون في منازل طينية في الأحياء الطرفية للعاصمة. كان يجب عليها ان تعبر الكبري الجديد، وتتجه وتدور يميناً في طريق أسفلت رائع مزدحم بعربات النقل التي تأتي للعاصمة من القرى جنوب العاصمة. وعلى ضفاف النيل، تستقر ال?يلل ذات الحدائق الواسعة المورقة.