كنت قد نبهت إلى غيبة طالت للوثيقة التي حملت أول عبارة صدرت عن الحزب الشيوعي عن «القوة الثالثة» في معرض تبرئة نفسه من مذبحة بيت الضيافة في 22 يوليو 1971 وصفوة قول تلك العبارة إن الذي قتل الضباط الذين تحفظ عليهم انقلاب 19 يوليو 1971 (الموصوف بالشيوعي) في بيت الضيافة هي قوة ثالثة في القوات المسلحة أرادت تقلد الحكم بالقضاء على دولة نميري وسلطة انقلاب 19 يوليو بضربة واحدة. وتطوع بتوفير الوثيقة السيد أبو بكر خيري من هولندا. فبعث لي بصورة منها جاءت ضمن دورة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الشجاعة التي انعقدت في سبتمبر 1971 أي بعد أقل من شهرين من الضربة المظنونة أنها القاضية. ولو احتفل الحزب بشيء لاستحقت هذه الدورة أن تكون في أسبقياته القصوى. وواضح أن أبابكر استعار كتاب الوثيقة من مكتبة بمدينةلايدن بهولندا. والكتاب صادر في يوليو 1973 عن دار ابن خلدون ببيروت بعنوان »الثورة المضادة في السودان«. ولم أجد رواجاً له في السودان. ولم أر أن هناك من أعاد طبعه حتى من الشيوعيين. وأنقل لكم أدناه نص هذه العبارة الشيوعية الأولى عن القوة الثالثة كما وردت في الكتاب: لم يوال الحزب الشيوعي نظريته حسنة التأسيس عن القوة الثالثة منذ أذاعها قبل نحو 40 عاماً. فقد عطل التفكر فيها حين قالت اللجنة المركزية للحزب إنها وحدها التي ستتولى كبر تحري 19 يوليو وذيوله. ولم تفعل ذلك إلا في 1996 في كتاب لم يتطرق لواقعة بيت الضيافة. وهذا تضييق شديد كنت احتججت عليه وأنا رهن الحزب في منتصف السبعينات. ولما منع الحزب المجتهدين بالنظر والمتفننين بالإبداع التوثيقي من أعضائه من «الاقتراب أو تصوير» 19 يوليو وذيوله بقيت نظرية القوة الثالثة (على وجاهتها وقابليتها للتطوير) في حالتها الأولى كجنين مجهض. وبقى وزر مذبحة بيت الضيافة معلقاً على جنب الشيوعيين لا يعرفون لدفعه عنهم صرفاً ولا عدلاً. وهذه هي الحزبية البغيضة. تجتمع أفضل العقول وأذكى المواهب في حركة للتغيير ثم يقوم فيهم «ألفة» يوريهم نجوم القايلة. وأكثرهم يقبل بهذه الغلظة ويتبخر الخير والإبداع فيهم إلى الأبد. واستغربت للدكتور الشفيع خضر لوصفه هذه الحزبية الكأداء قصيرة النظر ب «الشدة والصرامة» تسم حزبه الشيوعي (التيار 3 سبتمبر 2009). فقال الشفيع إن هذه الشدة اللضيضة هي سبب نزيف المثقفين في الحزب الشيوعي. فهي تصادم المثقف الذي يبحث عن أرض يبذر فيها بذرة التغيير. وقال إن الحزب يوفر للمثقف هذه البيئة ولكن «وفق شروط النشاط السياسي التنظيمي الصارمة». وهكذا تصطدم أفكار المثقف التي تشبه الأحلام بأعراف منظمته الشيوعية الواقعية التي شاغلها العمل السياسي اليومي. ولا أذكر أن شروط الشفيع هذه هي ما حدثني به أستاذنا عبد الخالق محجوب حين «قسسني» للتفرغ للعمل الثقافي في الحزب في 1970. ولم أجدها في ما خط يراعه في «قضايا ما بعد المؤتمر الرابع» (1968). وقال فيه إن حزب الشفيع «الشديد» هو حزب الكادر المنبري التنظيمي الذي لا مستقبل له بدون أن يستوعب المثقف ككادر «شديد» على الحق وأوكد البحث. ومن الواضح أن نظرية الشفيع عن المثقف والحزب مما اتفق للحزب بآخرة ليغطي عورته مع المثقفين. فهي تراب الميري الذي فاته. «ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك» وتركوك قائماً مثقلاً بذنب بيت الضيافة الذي عمره أربعون عاماً. وهو ذنب يلقي بغائلة من الشك على نشاط الحزب اليومي (المزعوم أنه صارم شديد) فيجعله أوهى من خيط العنكبوت.