-1- اهدتني سهام شريطاً لمغن قديم .. يصدح بكلمات معتقة بالشجن والحزن النبيل ... كنت ارحل في هذا العالم الجديد الذي يمد لسانه للظروف الخاصة التي تتعامل مع الثوابت ... ( بت سعدية صناعة الريحة البلدية تشغل فراغ بنات الحي بتعليماتها ومحاسن ذات الألق ضبطت تركب سيارة فارهة كثرت بعدها الاقاويل ... وابتسام تزوج رجلها الاول للمرة الثانية دون ابداء اسباب تذكر و .. و ... ). كنت اراها تخاصم الحياة السهلة والروتين ... لتمزق حبال العادة القوية في تلك الناحية من المدينة حيث هرولنا سويًا كثيراً ... ومضغنا الحذر فلم نبق شيئا ولكنها اختفت مع الشتاء الذي لم يذكر شيئا عن العودة ... راحت مثلما تضيع الاشياء الجميلة في لمحة البصر ولا ادري ما السبب ... فالأيام بيننا تمتد لتصبح سنيناً .. لا احس بالساعات تتساقط في ميناء الزمن ... والدقيقة بجانبها منزوعة بالشجن والعوالم . - كأننا خلقنا لبعض . - أتحسر على الايام التي مضت دونك يا سهام . - لماذا الصمت . - أخاف الرحيل . - لكن الرائحة !! - لا افهم . اذكر ان تفاصيل كثيرة .. حية وارفة ناهضة بيننا ... ثم تحاصرني الآن الصور ... والأمكنة ... والرائحة . وبينما اهدتني شريطا لمغن قديم يصدح بكلمات معتقة بالشجن والحزن النبيل .. اخذت مني كتاباً وديوانًا من الشعر وقصيدة رديئة لي ولم اكن ادري ان الذي معنا كله .. سيعلق داخل الكتاب . يومها كانت سهام ضاجة بالحيوية ... جاءتني كعادتها ... عيناها مترعتان بالحنين ثرثرت كيفما اتفق ... لكنها لم تنس حدود خمارها الملفوف بعناية فائقة . - دائما تذكرني يا سامي ؟!!! - لا انساك الا لأذكرك بشدة . - ولكن انت تعلم .. انني لست لك . - ..... - لماذا الصمت ؟!!! - الان انا كاملة غير منقوصة هذا المراد . - ....... ...... رحلت بهدوء بذات طريقتها الساخرة الحية حين دفعت الي بالكتاب وقالت بطريقتها المثلى : لا تفرط فيه ... فهو « انا « ضحكت فرقرقت عيناها بفرح وحزن وحنين ... ودمع حبسته بابتسام متدفق . لم ارها منذ ذلك اليوم ... وغابت مثل الشمس ... وضاعت كالشتاء الذي لم يحدث شيئا عن العودة ... والتمست الذكرى فلم اجد الا حنينا ... وصورا مشرقة تحدثني عن اللقاء والظل الوارف وتقترح مواعيد للانفجار .. وتلاءمنا مع ساعة الغروب وبعثرنا الحياة الرديئة النمطية .. نأكل في غير تلك الاماكن المعتادة للطعام ... ونمشي مسافات طويلة لا نمل .. ونرجع حيث بدأنا ... لنستأنف الرحلة من جديد .. ترافقني حيويتها الزاخرة ومبادرتها المثابرة . هذه الصور حرقتني ... فحاولت انتحار الذاكرة .... ولكن زاحمتني تماما فهرولت للكتاب فشخصت فيه ... لم اجد شيئا ... سوى أثر واضح للدرس الشديد ... وبعض صفحات مطبقة .. لم افهم في ذلك شيئا ... حيث طوقني الحصار باسار شديد ... فأخذتني الحمى عن الكتاب تماما نمت معه في ذلك اليوم شديد البرودة بعد انقطاع مريب للشتاء . وفي الصباح شخصت مرة اخرى ... لم اتبين شيئا سوى صفحات مطبقة ... وأثرا للدرس شديد ... وقع الكتاب من يدي المرهقتين المرتعشتين فشممت رائحتها بين اليوسفي وبعض الزهر الطالع . ذات الرائحة التي لم اشمها من قبل الا عندها ... ليست نفاذة ... ولا صارخة .. ولا انيقة بشكل مثير ... في ذلك المساء .. ونحن عند ( منتزه للعوائل ) عند ركن قصي في مرمى اعين الناس .. تعرفت على خاصة حوائجها .. وفتشت عطرها بأسئلة مباشرة .. فأخرجت لي زجاجته ... التي بدت لي غريبة ... طويلة اكثر مما يجب وملفوفة ... لا تثير الدهشة مثل العطور الباريسية وكأنها قد صنعت من رحيق حيويتها .. وندى ايمانها الوافر بأشياء تخاصم بها المؤسسة النسوية . امسكت بالعطر وانا أتأمله لم يحرك في شيئا سوى ان رغبة تملكتني بأن أستعمل ذلك العطر .. ولكن حبست تلك الرغبة .. وكثيرا ما كنت لا ابوح ببعض الاشتياق والحنين . كنت ألمح ظلال رغبات شتى في عينيها ... ولكنها تمارس ذات ( الدس) الذي يناسب اوضاع المرأة في هذه المدينة وعند ذلك الفعل تبدو اجمل ما يكون عندها يظللها طيف من الحمرة على تلك الخدود . اصبحت أقلب وأقرأ في الصفحات المطبقة .. لأجد معنى راسخا بأن اللقاء حتمي وان امتدت المسافة والرائحة في صفحات الكتاب واضحة .. وكلما قربتها .. أمسكت في أكثر علاقة الحياة اتصلت بالرائحة التي استنشق وازفر بها ثم لا تخفت ولا ينتهي اثرها رغم تطاول الايام ... وسهام لم تظهر منذ ذلك اليوم حيث غابت الشمس وانقطع الشتاء !!! ومع تدفق عطرها الذي هاجر في دواخلي بدأت أحلم بانهيار مؤسسات النساء الواحدة تلو الاخرى ... فغابت ( التعليمة ) التي تستهوي قلوب الفتيات في المدينة ... واضمحل وجود السيارات الفارهة ... واسباب الزواج صارت معروفة وواضحة و ... و !! والرائحة تسلمني ليوم جديد .. أتنفس فيه .. واكتب على النيل قصائد ناضجة ضد الاستلاب والشرعية ثم بعض الاصدقاء راحوا يتساءلون عن تلك الرائحة التي أتعطر .. رغم انني اقسم بأنني لا استعمل شيئا !! كنت اراها بحيويتها المتدفقة ... وعطرها المميز ... تنتقل معي في كل الساحات .. والعطر يأخذ كل يوم وضعا جديدا .. يحرضني لفعل الخيرات .. عند جلستنا على النجيلة الخضراء ( ليست خضراء تماماً ) وانا أتأمل زجاجة العطر .. وأرمم بعض جدار الحائط الجنوبي للمدينة مع شبابها المتوثب .. ورغم أنني لا اراها تماما الا ان الرائحة النفاذة .. بين اليوسفي والزهر الطالع .. ليست صارخة .. و مثيرة ولا انيقة كالروائح الباريسية . 1992م