في طريق عودتي من مقر شركة «Panametrics» في مدينة «Shannon» الايرلندية إلى فندق «Oak wood arm» قالي لي السائق الشاب: «يا سيدي لقد أخبرت أسرتي عنك ولقد أستحلفني جدي بأن أأتي بك إلى المنزل ليتحدث إليك»! سألته ما الداعي إلى ذلك؟ فقال: «جدي قد عاش جل سنين صباه في السودان أيام الاستعمار الإنجليزي وهو يحب السودان كثيرا»!.. أحسست برغبة في رؤية ذلك الرجل فقلت لرفيقي ليس لدي شئ أفعله في الفندق فانظر ان كان الوقت مناسباً للقائه الآن؟ هاتف الشاب جده ثم قال لي لا بأس هو الآن في انتظارك.. دلفت إلى منزل لا يختلف كثيراً عن طابع المنازل الإنجليزية، حيث بابه الخارجي يطل مباشرة علي الطريق العام.. ولكن البيت أضخم وأكثر اتساعاً من بقية المنازل التي تجاوره.. أجلسني السائق «باتريك» في إستقبال المنزل وأحضر لي قارورة مياه معدنية ودخل ليستدعى جده.. أدرت بصري ملياً في الحيطان ففاجأتني صور لا تحصى ولا تعد عن السودان.. من ضمنها صور لشخصيات سودانية تاريخية عديدة منها صورة عبد القادر ود حبوبة ومحمد أحمد المهدي.. وكذلك صور لجبال التاكا والطابية.. ويتخلل كل ذلك الكثير من المنحوتات والمشغولات اليدوية السودانية!.. وفجأة دخل عليَّ رجل قد تجاوز التسعين من عمره وهو يتوكأ على عصا وتعلو وجهه أبتسامة بشوشة.. مددت يدي لأصافحه فما كان منه إلا ان أحتضنني وسلم عليَّ سلاماً سودانياً «خالصاً»! جلسنا سويا بجوار نافذة تطل على نهر شانون حيث أرى من مكاني الصيادين وهم يروحون ويجيئون بقواربهم خلال النهر.. وألتفت إلى الرجل وخاطبني بعربية لا بأس بها وهو يشير ب «عكازه» إلى النهر «مش زي النيل بتأكم لكين جميل مش كده»؟ فهززت رأسي بالإيجاب. بدأ مضيفي «تيموثي كوينلان» بالحديث عن السودان حديث محب متيم فارق محبه! لقد أمضى «تم» -كما يناديه أهله- أكثر من اثني عشرة عاماً في السودان موظفاً مرموقاً ولم يترك بقعة في السودان إلا وقد زارها بل تجده يحكي لك عن اسماء أشخاص وأحداث تجعلك تغبطه على ذاكرته القوية.. وتوقف هنيهة وقال لي «نسيت أن أهنئك على توقيع إتفاق نيفاشا»! فاستغربت لسعة إطلاع الرجل إذ الاتفاق كان قد تم قبل أشهر قليلة فقط.. وتابع «تم» وهو في حالة تأثر واضح وقد أغرورقت عيناه بالدموع.. «لديكم «رجل» لو خيروني فيه لأقمت له تمثالاً في وسط جزيرة توتي بحجم لا يقل عن تمثال الحرية في جزيرة مانهاتن.. وليتنا نوهب رجلاً مثله هنا في آيرلندا»! سألته بشغف ومن ذاك الرجل؟ فقال لي: - إنه «علي عثمان محمد طه»!! عاد «تم» إلى الوراء وأسند ظهره إلى الأريكة التي يجلس عليها وحول بصره إلى صورة محمد أحمد المهدي وود حبوبة وقال.. علي عثمان محمد طه «صدقوني ذكر الاسم كاملاً كما هو»! يعد رجل دولة من الطراز الفريد!.. ولقد قابلت العديد من القادة وحرصت على تقييمهم من خلال متابعتي للقاءاتهم وخطاباتهم وتصريحاتهم في وسائط الإعلام المختلفة ولدي موهبة «ربانية» في سبر شخوص القادة أضافت إليها دراستي الجامعية في مجال علم النفس والسلوك ثم دراساتي العليا في العلوم السياسية تعززها خبرة عمل طويلة في البلاط الملكي البريطاني ثم في مصر والسودان الكثير.. واستطيع القول بأن «علي عثمان» يعد من أفضل القادة في العالم.. ولقد اراني «تم» مئات الموضوعات والمواقع يحفظها في موقع «المفضلة» لديه في حاسوبه الشخصي تتحدث بصورة أو بأخرى عن علي عثمان محمد طه! ولقد أضاف لي بأنه قد وجد نفسه ليس الوحيد في العالم.. إذ قد وجد الكثيرين ممن يشاركونه الإهتمام بشخصية علي عثمان أفراداً ومؤسسات! وواصل قائلاً لقد إتصلت من قبل بهيئة اليونسكو العربية- إذ لي علاقات ببعض العاملين فيها- وعبرت لهم عن وجهة نظري بأنه من المفيد لدارسي العلوم السياسية وآليات العمل السياسي في مؤسسات التعليم العربية ان يدرسوا أسلوب عمل علي عثمان محمد طه السياسي والحركي منذ ان كان رئيساً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم وكذلك فترة قيادته للمعارضة السودانية .. ومن بعد ذلك أداءه الرائع منذ تسنم الانقاذ لمقاليد الحكم في السودان وفي وجود كل ذلك ال «كم» من التحديات الكبيرة التي واجهتها الدولة السودانية اقتصادية كانت أم سياسية أم أمنية حيث الدولة محاصرة ومحاربة من القريب ومن البعيد! برغم كل ذلك استطاع السودان بحكمة هذا الرجل وبعد نظره ان يجسر الكثير من الهوات والحفر بل استطاع ان يجعل من بلده رقماً في محيطه العربي والافريقي والعالمي بعد ان استطاع السودان وبمجهود خرافي من إستخراج البترول ومد أحد أطول خطوط انابيبه في المنطقة!.. كنت طيلة حديث الرجل أتحفز لمقاطعته ولكنه فاجأني ونظر إليَّ من بعد ان كان بصره مصوباً إلى الحائط وقال وهو يشير لي بيده اليسرى «فقد كان أعسر».. ثم ان كل من يعايش حراك العمل السياسي تشريعياً كان أم تنفيذياً يؤمن بأهمية وجود مثل هذه الشخصيات المفتاحية ذات الكاريزما القيادية التي تستطيع ان تكون صمام أمان عند إصطدام الناس بالمواقف التي تستدعى إتخاذ قرارات آنية ومصيرية خلال جلسات المؤسسات الدستورية والتنفيذية!! علي عثمان «والقول لمضيفي الآيرلندي» هو محام ثم اصبح قاضياً مرموقاً.. والمحامون والقضاة مشهود لهم بالحكمة والكياسة وبعد النظر ثم هناك رؤيتي الشخصية لسمات الرجل من حيث ملكته الفائقة في ضبط نفسه، وعزوفه عن التهاتر والتسرع في ابداء إرائه وأحكامه على الأمور.. ولقد كانت لي لقاءات وصداقات عديدة بأعضاء من السلك الدبلوماسي الغربي سبق بأن عملوا في السودان.. أكدوا لي جميعاً مدى الجهد الذي يبذلونه عندما يقابلون الرجل لما يتمتع به من كاريزما قيادية فذة! أما أمر مباحثات نيفاشا وقدرته على إذابة جليد الكره وعدم الثقة المتراكم على مدى أكثر من نصف قرن في النفوس- وذلك من جراء حرب أهلية مع اخوتكم في الجنوب- ومثابرته على ذلك لشهور في مدينة نيفاشا.. يليه تنازله عن مقعده كنائب أول لرئيس الجمهورية لغريمه «جون قرنق» فهو الذي يستحق به التمثال الذي تحدثت عنه!! تاريخ الشعوب والحضارات يا سيد علي -يقصدني بالطبع- يكتب دوماً عن بصمات العديد من الابطال الذين قادوا دولهم في فترات حالكة من تاريخها.. ولقد أردتم للتاريخ ان يكتب في بلدكم عن الازهري والمحجوب وغيرهم ممن لم يفعلوا ربع ما فعل هذا الرجل للسودان «وها هو لم يزل يبذل ويقدم»!.. أنني لا أرى أحقيته بأن يوضع في معية من ذكرت فقط.. وإنما مكانه الذي يستحق.. هو ان يوضع مع أمثال هذين البطلين الذين ترى صورتيهما على هذا الجدار- يقصد محمد أحمد المهدي وود حبوبة- وأنني لواثق بأن هذا الرجل سيكون هو المخلص للسودان من كل أزماته طالما عاش «ولا أقول طالما كان في السلطة إذ أن أدائه في المعارضة لا يقل أمتيازاً عن أدائه وهو في السلطة»!.. دخلت علينا «ريتا» ووضعت أمامنا كوبين من مشروب أحمر ساخن ثم صافحتني بمودة وابتسامة بشوشة تنم عن محبة «مقيمة» للسودانيين! قدمها لي «تم» قائلاً هي حفيدتي وتدرس في المرحلة الثانوية.. وللعلم فقد وجدت الآيرلنديين أشبه بنا نحن أهل الشرق بأكثر منهم إلى أهل الغرب وذلك من حيث وجود الأسرة الممتدة ومتانة الأواصر فيما بينهم ثم لعدم اقتصار الأسر هناك علي طفل أو طفلين كما هو الحال في بقية دول الغرب وقد أبان لي «تم» بأن الدولة منذ أمد بعيد قد أمرت بزيادة النسل وتعطى في سبيل ذلك الكثير من الحوافز وذلك لتعويض الفاقد السكاني من بعد تسمم غذائي ضرب آيرلندا قبل قرون أصيب به محصول البطاطس- وهو المحصول الرئيسي في آيرلندا- ومات من جرائه الملايين في محنة أسموها بال «Femen» تلا ذلك هجرات كثيفة إلى امريكا في القرن الثامن عشر .. ولقد علمت بأن متوسط عدد أفراد الأسرة الواحدة من أب وأم «حالياً» يفوق الخمسة أشخاص!.. قربت الكوب إلى فمي فإذا برائحة تشبه رائحة الكركدي تقتحم أنفي فرفعت بصري إلى مضيفي فوجدته ينظر إليَّ مبتسماً وقال لي بالعربية «أيوه كركدي»! فسألته مستغرباً عن كيفية حصوله عليه هنا في آيرلندا؟ فما كان منه إلا أن تناول سماعة الهاتف وتحدث بالعربية إلى شخص في الطرق الآخر: - السلام عليكم سيد يحيي محمد الحسين»!! ثم واصل قليلاً بالإنجليزية مخبراً «يحيي» بأنه يود ان يعرفه بصديق قادم من السودان.. تناولت السماعة فسعدت جداً بالتعرف على أحد أبناء مدينة «نوري» في شمالنا الحبيب وهو رجل يحتاج لأن نفرد له صفحات!.. فهو مدير بل هو «من أنشأ» المركز الاسلامي في «دبلن» ويأوى إليه الكثير من الأخوة الاطباء السودانيين القادمين لدراسة الزمالة الآيرلندية.. ولقد قدر لي من بعد ذلك ان أزوره في داره العامرة في دبلن وأتعرف على أسرته الكريمة المضيافة.. بعد تناولنا لل «كركديه» طلب مني «تم» الخروج معه إلى مكان عمله فقاد سيارته الفورد بنفسه! وبنشاط وحيوية يحسده عليها الشباب من أمثالي وصلنا إلى مكان ينتشر فيه عمال يقومون بالحفر في الأرض بآليات وفي أماكن معينة منها ليخرجوا مكعبات ترص منتظمة في العراء وقال لي «تم» .. قد تستغرب يا سيدي إن قلت لك بأن مساحة الأرض الخضراء هنا في بلدنا آيرلندا تعد أكثر من «90%» ولكن برغم ذلك فإن النسبة الصالحة للزراعة فيها لا تتعدى ال «3%» فقط! والسبب في ذلك هو تراكم طبقات جذور الحشائش في التربة حتى أفقدتها مكونها الترابي فأضحت لا تصلح للزراعة! وقد استفدنا نحن من ذلك حيث نقوم بالحفر وإستخراج هذا ال «الفحم» الذي تراه ليستخدمه الناس من بعد جفافه في أغراض التدفئة وأشعال النار ونسميه بال «Turf» وهو عبارة عن تلك الجذور من الحشائش المطمورة منذ آلاف السنين في التربة نقوم بضغطه وتحويله إلى مكعبات ثم نبيعه وقوداً للتدفئة.. جلسنا في مكتب صغير يطل على العمال وبدأ «تم» في مواصلة ما انقطع من حديث سابق: بلدكم السودان يا سيد علي - بالطبع اسمي عادل حسن علي- قد تعرض- منذ قدوم الحكومة الحالية- إلى تحديات وأشكالات خارجية تكفي الواحدة منها فقط لإسقاط أية حكومة في العالم.. بل أري أنها يمكن ان تقوض بنيان الدولة باسرها هذا بالإضافة إلى ما ورثته الحكومة من خزينة خاوية ثم تفاقم الحرب مع الحركة الشعبية والذي أدى إلى قرب إنهيار الجيش حينذاك فما كان منه «أي الجيش» إلا أن انقلب على النظام الديمقراطي الهش.. في مثل هذه الظروف يأتي دور اولئك القادة المفتاحيين أصحاب الكاريزما المميزة! ولكم أعجبت أيما أعجاب بأداء السيد علي عثمان محمد طه كثيرا وهو يؤدي مهامه وزيراً للشئون الاجتماعية ثم وزيراً للخارجية حيث إستطاع برؤية وحنكة كبيرة على أن يخرج بالبلاد من الكثير من المزالق والمهالك التي سنأتي عليها واحدة.. واحدة للموضوع بقية