بالرغم من ان عدد الحضور في تلك الأمسية لم يتجاوز ال «52» شخصاً إلا أن الندوة التي اقامها المجلس القومي لرعاية الثقافة والفنون بالتعاون مع اللجنة العليا لمعرض الخرطوم الدولي للكتاب في دورته الخامسة جاءت في كامل الأناقة الثقافية من حيث السرد المعلوماتي والتدقيق اللغوي.. ومثل المتحدثون موضوع الندوة أفضل التمثيل.. كيف لا وهي تأتي تحت عنوان «بعد الرحيل».. وهي ندوة أو فلنقل جلسة أدبية في تذكرة الروائي العالمي الطيب صالح.. كان ضيف الشرف فيها الكاتب والشاعر السعودي «عبد الواحد الانصاري» الذي جاء ليشارك الوفاء لنخلة أعطت وما بخلت.. معوضاً بسرده المتقن وقفشاته المتزنة حسرة تلك المقاعد الخالية. الأديب يموت داخل نصه مئات المرات في إفتتاحية الليلة تحدث الاستاذ «صديق المجتبى» عن الأديب الراحل أبلغ الحديث وإن عبنا عليه إصراره علي ترديد كلمة «امبكول» في حديثه عن موطن الطيب صالح والمعروف للجميع ب «كرمكول» .. إلا أن تلك الهفوة اليتيمة لم تفسد بقية السرد خصوصاً وهو يعبر عن قلة الحضور بقوله: «لا اعتقد ان هذه المقاعد خالية.. لأن الأذن الواعية هي التي تعي.. وهي موجودة امامنا».. كما تحدث عن عنونة الليلة والتي جاءت ب «بعد الرحيل» قائلاً ان الشعراء والمبدعين يرحلون بأجسادهم وتبقى أعمالهم تنقش افكارها في وجدان الناس.. كما اضاف ان الاديب يموت داخل نصه مئات المرات.. وتحدث عن الطيب صالح ورحيله.. متطرقاً إلى التاريخ الجديد الذي قام بتفعيله في روايته «موسم الهجرة الشمال» ومحاولاته ان يجعل ذلك التاريخ مصوراً.. وان يضع له مركزاً كان هو بطل الرواية «مصطفى سعيد» الذي ولد في العام 8981م.. وأضاف ان ذلك الحوار الذي دار بين «النخب» والاحاديث التي دارت عن مشاريع وتطوير القرية.. ما هي إلا محاولة لكتابة تاريخ يبدو «مستحيلاً» ولتسجيل لحظات لم ترصدها اقلام العملاء.. وقال أن أهمية الرواية خلقت لنا عالماً مفقوداً لا ننظر إليه دائماً.. ونظره الطيب في ذان تخلق تاريخاً اجتماعياً تثبت ان هناك جزءاً مجهولاً في تاريخنا.. وأضاف ان ادب الطيب صالح لا بد ان يقراء كفكرة.. تحتوى على الإنسان السوداني والتواصل بين الشمال والجنوب.. وختم حديثه ان اغلب المناهج والمدارس الكلاسيكية فشلت في تسكين الطيب صالح.. كما فشل أيضاً أصحاب المدارس الايدلوجية في تفسير مجموعة خطابات الطيب صالح .. قائلاً: «ان الطيب صالح كتب من خلال مناهضة الذات».. ? الطيب .. انطلق من المركز وكسر الهامش.. الاستاذ مجذوب عيدروس الكاتب والصحفي نادى بأن يتم النظر للطيب صالح من زوايا مختلفة على حسب الموقف النقدي والفكري والروائي.. كما تحدث عن فكرته التي طرحها والتي جاءت بعنوان «الطيب وجدل الهامش والمركز» وقال ان الطيب نظر للسودان كبداية للعالم الافريقي ونهاية للوطن العربي.. ومن هذه الزاوية تجاوز عقدة الهامش والمركز.. وقال انه تجاوزها في وقت عجز فيه بعض كتابنا.. وروى عيدروس على الحضور بداية تقديم الطيب صالح للعالم العربي والسوداني عن روايته «موسم الهجرة إلى الشمال» عندما التقطها الناقد الكبير جبرا إبراهيم والذي كانت نظرته للرواية لا تتجاوز حزئيتا الجنس والحب.. وفؤجىء برواية الطيب صالح وقال انها عبرت عن موضوع كبير.. وأضاف محجوب ان الطيب استفاد من طريقة السرد التقليدي السوداني «المزج بين العامية والفصحى».. كما قال ان الاحاديث التي تتردد عن اضافة الطيب صالح في معمار البناء الفني للرواية قد كثرت.. خصوصاً بعد ان كان ذلك أحتكارياً علي الكاتب المصري «نجيب محفوظ» والذي رأي كثيرون ان شهرته وقلمه سقف لا يمكن تجاوزه ليأتي الطيب ويقول كلمته ويمضي.. وأضاف «عيدروس» ان الطيب استفاد من انطلاقته من المركز «يقصد القاهرة وبيروت» وكسره للهامش قبل ان يحلق.. وختم مجذوب عيدروس حديثه بأعتذار رقيق للكاتب السعودي الزائر عن الحضور الذي لم يكن متناسباِ مع مكانة وقامة كالطيب صالح.. ? جائزة نوبل ظلمت الطيب صالح.. كان واضحاً جداً ان الاديب والكاتب السعودي «عبد الواحد الانصاري» جاء إلى السودان وفي دواخله كثير من حب لأهل هذا البلد.. وتأبط معلومات متميزة وقوية عن الروائي «الطيب صالح» أو بمعنى أدق«جاء مذاكراً» كما يقولون.. فأبتدر حديثه باعتذار لكل مثقفي السودان في كلمته عن الطيب صالح قائلاً: «يتعذر على مثلي ان يتحدث لمثقفي السودان عن الطيب صالح.. مضيفاً: أنه يصبح مثل «الذي استودع التمر لأهل خيبر».. ليصفق له الحضور على بلاغة تشبيهه المقتبس.. قبل ان يتحدث عن الطيب بمنظور القارئ الخليجي والذي لم تبدأ الرواية العربية بالظهور في عالمه إلا في العام 4191م على يد محمد حسين هيكل أي قبل «51» عاماً من ميلاد الطيب صالح.. واضاف: بعد مارسيليا ماركيز بعامين تسارعت وتيرة المد.. فعرفت روايات العالم الثالث على قلم الكاتب الهندي طاغور.. وقال ان المتلقي الخليجي قلما يعرفمن ادباء افريقيا.. ومن ضمن اولئك الذين يعرفهم الطيب صالح ونجيب محفوظ.. واضاف: «والغريب عندما تسألهم عن مبدعي السودان يقولون «الهادي آدم» صاحب أغنية «اغداً ألقاك» لام كلثوم أو محمد وردي».. قائلاً: «وردي... عرف بطريقة غريبة في الخليج.. حتى أن أمام أحد المساجد قال ان الاستماع لاغاني وردي لا يدخل ضمن المحارم للمعازف».. ليضج الحضور بالضحك قبل ان يصفقوا إعجاباً بسرد الكاتب السعودي المدهش.. وتحدث أيضاً عن الظلم الكبير الذي قوبل به الطيب صالح من القائمين على جائزة نوبل..وذلك لقلة إنتاجه.. وقال: لا زال البعض يتذكر عبارة الطيب صالح الشهيرة في ذلك عندما قال: «لست مصنعاً لانتج» .. وأضاف: «ان عقدة العالم الثالث لدى اولئك ينبغي ان توحدنا معهم في الاهتمام على الأقل».. وقارن «عبد الواحد» بين رواية موسم الهجرة ورواية مائة عام من العزلة.. ليجد ان «الغرائبية» في رواية الطيب صالح أصيلة ومستمدة من الثقافة المحلية له.. بينما شابهت «غرائيبة» ماركيز «قوقول» و«كافكا» في «المسخ» التي كانت متمثلة في روايتي الانف والمعطف الروسيتين.. واقترح «عبد الواحد» على الباحثين الاكاديميين إفراد مسألة العجائبية الشعرية وقراءة جذورها.. فالشجرة التي تعطس في قرية ديكانيكا.. ترتجف في قصة الطيب صالح.. والبعوض لدى ماركيز ليس بعيداً عن الطيب في دومة ود حامد.. وقال ان الطيب اختط لنفسه خطاً متوسطاً بين نجيب محفوظ وإبراهيم الكوني.. وكان اميناً في النقد ولم يتجاوز دوافع البيئة المطروحة كما تجاوزها الكوني.. وهو ملتزم ايضاً من ناحية البناء الفني وأضاف: «لا اعتقد ان هذين الكاتبين محفوظ والكوني تميزا عن الطيب صالح إلا بغزارة الانتاج».. وتحدث «عبد الواحد» عن مشكلة الطيب صالح مع الغرب.. بالرغم من اعتراف الاخير به.. ويعتقد ان سبب تلك المشكلة يعود لرواية موسم الهجرة إلى لشمال التي مارس الطيب على الغرب فيها نوعاً من الانتقام الرمزي الذي قام به مصطفى سعيد.. وأضاف: «اعتقد ان ذلك هو السبب لأن الغرب اعتنى بكتاب اقل من الطيب صالح بكثير».. وأضاف ان اعمال الطيب صالح خاطفة للبصر ولا يخرج القارئ منها كما يدخل إليها.. وعن تأثير الطيب صالح في الروائيين الخليجيين قال بأن «عبد الباري عطوان» اعترف بتقليده للطيب وها هو الخانخي يحاول ان يضع ادبه في مقام المقاومة وهو يصور الطيب بين مواجهة الموت والحياة والظلم والجزاء مستمداً ذلك من رواية موسم الهجرة.. اما الروائي السعودي «عبده خال» في العام 9002م إعترف بأنه تأثر بادب الطيب صالح وغيرها من الشهادات الكثيرة.. وختم «عبد الواحد» حديثه ان الطيب صالح صنع لنفسه دومة كدومة ود حامد واستطاع ان يقنع العالم ببصمة إبداعه التي صنفت من كلاسيكيات القرن العشرين و«الفوق التاريخية» إية أن أعماله تبقى على لمعانها ومتانتها رغم طول المسافة.