للشاعرة البريطانية القديرة آن أسميث قصيدة بعنوان «من قتل الببغاء». تصور فيها أفراد العائلة وهم جلوس في غرفة الصالون حول المدفأة. يلفهم صمت مطبق، ينظرون إلى الفراغ وكأن على رؤوسهم الطير وأمامهم على المائدة جثة ببغاء، ويقرأ من السياق أن الأب مسجي في التابوت. إذاً هم جلوس في مأتم والدهم ينتظرون المعزين. ونعلم ايضاً من سياق القصيدة أن الببغاء كان يردد كلمات الأب الأخيرة «لقد قتلوني» وبذلك نكتشف سر الببغاء القتيل، فهل قمنا نحن أيضاً بالإجهاز على ثقافتنا لنمشي في جنازتها ثم نعود ونردد في براءة من قتل الببغاء؟ وبعد حين نتهم بعضنا بعضاً بارتكاب الجريمة بينما نحن كلنا مذنبون. ---- الحق ان الثقافة السودانية وهي في مفترق الطرق الوعرة والمسالك المنبهمة، لم تصل لانسداد الأفق إلا بما ابتليت به من أمراض قديمة استحكمت فيها على مر السنين. نحن حقيقة نعاني من ثقافة الانفصام والانقسام، والثنائية البشعة، والإدعاء المنطوي على نفي الآخر، ثم تأتي الجهوية والقبلية «عرقية وسياسية». فالنظرة الابوية للشعب القاصر في عقله وفكره. في عهد السلطنة الزرقاء ذكر الفقيه ود ضيف الله في كتابه «الطبقات» أن القاضي دشين قد عاتب ود الهميم على جمعه بين الأختين. فخاطبه الشيخ ود الهميم قائلاً: «روح الله يفسخ جلدك» وقيل إن ذلك قد حدث بالفعل، إئ إذ أصيب القاضي دشين بالبرص وفي هذه المعركة الشرسة بين علم الظاهر وعلم الباطن أنشد الشيخ محمد الهميم: فإذا كنت يا قاضي قرأت مذاهباً ** فلم تدر يا قاضي رموز مذاهبنا قطعنا البحار الزاخرات وراءنا ** فلم يعلم «القضاء» أين توجهنا حللنا بواد عندنا اسمه القضا ** فضاق بنا الوادي ونحن فما ضقنا ولو خاطب القاضي الشيخ بقليل من الرفق، ربما تراجع الشيخ قليلاً عن تحليقه الصوفي والتزام جادة الشرع. ومنذ ذلك الحين احتدم الصراع بين أهل الحقيقة وأهل الشريعة حتى يومنا هذا وأصبح الانقسام ديدننا، ثم كرت السبحة انظر كتاب «الصراع بين المهدي والعلماء» لعبد الله علي إبراهيم وما نشب من بلبلة ظللنا نعاني منها. لقد كان المهدي فقيهاً عالماً بالكتاب والسنة، وكان مجاهداً يتطلع إلى تحرير البلاد من نير الحكم التركي، ولم يكن على قناعة بما أخذه عن شيوخه واختط لنفسه طريقاً بديلاً. وتعرض على يد فقهاء السلطان للقدح، رغم انتصاراته الباهرة التي لم تشفع له عندهم. تلي ذلك عهد تفشى فيه الصراع على السلطة والروح القبلية، وروح التعصب للبطون والأفخاذ، واشتعلت النعرات والجهويات التي حاول المهدي جهده لإخمادها، فاختار خليفته من غير الأشراف، فأودت العصبية القبلية التي سادت كافة أنحاء السودان بالدولة الوليدة وأجهضتها، كما حدث للثورات على مر تاريخنا، وإن كان ذلك بسبب القبلية السياسية، وعندما جاء الإنكليز وجدوا تربة خصبة لزرع الفتنة بيننا، فقد كانت الثقافة السودانية في طورها الجنيني، والروح الوطنية موسومة بالهشاشة، والضعف، والكفاح الوطني عرضة لجواسيس الانكليز وأذنابهم. وفطن لذلك الشاعر النبيه خليل فرح حين قال: خبئ كاسك لا ينوبنا ناب *** كل خشم المركز ذئاب وقال خلف: ولحكمة جعلوا المدارس قلة ولحكمة ضاعت مواهبنا سدى». والعبرة هنا ان السودانيين انقسموا حول الاستعمار فمنهم من ناضل، ومنهم من سلم الراية لروبرتسون وأعوانه. نعم كانت هناك قلة تتطلع لوطنها أمثال محمد عشري الصديق الذي كتب دراسة مهمة عن إصلاح التعليم وقدمها لرؤسائه الانكليز، وربما لم يجد من يؤازره من السودانيين. وبسبب ذلك كاد يفقد وظيفته، فانزوى كزهرة الظل منذ ذلك الحين وبسبب كتاباته في «ايجيبشيان غازيت» جرى ما جرى لمعاوية نور من مأساة تقشعر لها النفوس، مع الأخذ في الأعتبار أنه لم يجد العناية والرعاية من رصفائه الوطنيين الذين كانت عينهم -للأسف- على الجاه والسلطة الزمنية، وقد رثاه المحجوب بقصيدة حزينة بعد فوات الأوان، ولا يسمح المجال لأكثر من هذا كإشارة عابرة. إن حركة الخريجين نفسها لم تسلم من الانشقاق. فانقسمت إلى شوقيين وفيليين، وانتقلت العدوى للأحزاب فيما بعد. عقب الاستقلال تحسس النخبويون رؤوسهم ووجدوا برنيطة الانكليز تهتز في رياح السودنة الرخية، فثبتوا البرنيطة بيد وشربوا شاي العصر باللبن «وهو من تقاليد الانكليز الراسخة» باليد الأخرى، وجاءتهم الخدمة المدنية ووظائفها التي يسيل لها اللعاب على طبق من ذهب، فتكالبوا عليها لا يلوون على شئ، وتسنموا أبراجهم العاجية في تعال محير، حتى أطلق عليهم البعض أسم «الانكليز السود» ومن هنا بدأ انفصال النخبة عن عامة الشعب، وبعد نشوء الاحزاب، تحولت القبلية الإثنية إلى قبلية سياسية تغذيها الطموحات الشخصية في الحزب الواحد، وقد سمعت في صباي قطبا حزبياً كبيرا ينتقد الشباب الطموحين في حزبه، ويقلل من شأنهم قائلاً عن أحد الدارسين لعلم الأناسة «الأنثربولوجيا»: قضى عشر سنوات في الدراسة عشان يجي يقولينا دا شايقي ودا ديناكوي ودا جعلي» دا علم شنو!! الأمر الذي أدى إلى انغلاق الأحزاب ودورانها في فلك واحد وإلى هروب الدماء الجديدة وتوالي الانشقاقات داخل الحزب دون مسوغ فكري، وإنما بسبب المكايدات والدوران في فلك الذات، واحتار الناس في الأمر حتى قال شاعرهم: كل امرئ يحتل في السودان غير مكانه فالمال عند بخيله والسيف عند جبانه إن من الآفات التي ضربت النخبة في مقتل فقدان الحس التاريخي، فلم يتدبروا الدروس والعظات، وتناسوا فن الحوار والتسامح الذي عرف به أهلهم.. بينما أتقنوا فن إقصاء الآخر ما دام لا ينتمي إلى القبيلة السياسية، ولو كان رأيه راجحاً موزوناً، ومن ثم دخلنا في الدائرة الجهنمية: ديمقراطية مقصوصة الجناح ثم حكم عسكري يقوم على النيات الحسنة. اؤم وليس لنا إلا أن نتفاءل، أردت ان لا تتكرر معنا قصة الببغاء «وهو يرمز إلى الضمير الثقافي» فنجلس للعزاء في مآتم الأب «الوطني» لنتلقى العزاء.. ولا عزاء. عن المجلة السودانية «البيت السابع»