وأنت تمضي بمحازاة شارع النيل بأمدرمان، وما أن تمر تحت جسر شمبات وتتجه شمالاً يتحول الشارع في اتجاه النيل، إلى مناظر فخارية جميلة ، وتملأ انفك رائحة الأخشاب العطرية (شاف، طلح، صباغ)، وبين هذه المناظر ، هناك حكايات وحكايات عن نشأة سوق أب روف العريق، والذي ينقسم إلى جزئين، احدهما الذي جئنا على ذكره بعاليه، والآخر في اتجاه الغرب والذي يهتم بالأثاثات الحديدية، وسنأتي على ذكره في حلقة قادمة ونحن نتجول داخل سوق أب روف. (1) اشتهر شاطئ أب روف منذ بدايات القرن الماضي بصناعة المراكب الخشبية، ومن مختلف الأحجام ، حيث كانت هناك المراكب الكبيرة (حمولة 002 جوال)، وأيضاً مراكب الصيد الصغيرة، لكن بدأت هذه الصناعة في الاندثار رويداً رويداً، وحلت محلها صناعة المراكب الحديدية، يضاف اليها القوارب والزوارق الجاهزة، فأخذت ما تبقى لتلك من مساحة، وأصبحت الآن بعض ذكريات، ولكن هناك قليل من المراكب التي يأتي أناس يطلبونها خصيصاً لأنها كما يقول العم حسين نصر حمد، والذي ورث (الصنعة) عن آبائه: «أي مركب الخشب (ثابتة، وباردة)، وما بتعطل بسرعة»، وهذا الكساد دعا عم حسين ورفقاء دربه ممن أتقنوا صناعة المراكب إلى التحول إلى تجارة الأخشاب العطرية، وبيع الأواني الفخارية بمختلف أحجامها واستعمالاتها، من مباخر، وأصايص زهور، و(الرحالة) التي تستخدم في الدخان. (2) ويقول عم حسين أنه بدأ بيع الأصايص والمباخر في بداية الثمانينات، وكانت تطلى باللون الأبيض في الغالب، لكن الآن هناك تلوين وزخرفة دخلت عليها، ويذكر أن ابنه معتز (الذي يرافقه في العمل) هو أحد رواد التلوين في الفخار داخل السوق، وهنا يلتقط معتز قفاز الحديث ويقول: نأتي بالأصايص الفخارية ونلونها ونشكلها بتشكيلات مختلفة ترضي مختلف الأذواق، وقال معتز أن النساء يأتين لشراء (البخور) وفي كل مرة يخترن (مبخراً) جديداً يتلاءم مع الأثاثات أو المفارش الموجودة بالمنزل، لذا فحركة شراء مختلف الاحجام من الكمائن القريبة من النيل دائبة وأشهرها (القمائر)، ومن ثم نقوم بطلائها لتكون جاهزة للبيع ولكل بضاعة موسم. (3) فموسم بيع هذه الأخشاب هو فصل الخريف كما أخبرنا العم محمد أحمد سلطان، إذ يكون الجو معتدلاً فتقبل النساء على استخدامها، أملاً في الحصول على بشرة ناعمة ذات لون برونزي ورائحة طيبة، ونصاف اليه موسم آخر وهو (العيدين) أي عيد الفطر وعيد الأضحى، لأن المناسبات تكثر في هذه الفترة، ففي حالات الزواج لابد من (جوالات الطلح) لأنها من أساسيات (الشيلة)، فيزدهر سوق أب روف بطالبي بضاعته. ويحدد عم حسين أنواع الطلح، من (أجودها الذي يرد من الدمازين)، ويعلل ذلك بأن الأراضي هناك خصبة للغاية، مما ينعكس على نوعيته وجودته، وأيضاً «الشاف» الذي يأتي من الغرب بكثافة، لكنه ليس بجودة الذي يرد من النيل الأزرق. (4) أحجام المباخر متنوعة، وكذا أسعارها.. فتبدأ من (خمسين قرشاً) للمباخر الصغيرة والتي يستخدم فيها البخور المستورد لأن سعره مرتفع، مروراً بالمباخر المتوسطة والتي تبلغ اسعارها بين جنيهين وخمسة جنيهات، وصولاً إلى المباخر ذات (الحجم العائلي) والتي تستخدم في المناسبات، حيث يتم اطلاق البخور منها لتنفح شذاها في أنوف المدعوين، لكن هذه الأخيرة -أيضاً- تعرضت لمنافسة الحداثة، حيث أن هناك مباخر نحاسية وبرونزية أضحت تنافس المباخر الفخارية التقليدية. (5) بشير عبد العزيز أحد أصحاب (أكوام الطلح) في سوق اب روف، التحق بالعمل منذ ما يربو على السنوات العشر، وبدأ كنجار للمراكب، لكن شأنه وشأن الكثيرين آثر كساد سوق المراكب اتجه للأخشاب العطرية، خاصة وأن عائدها المادي مجزٍ -على حد تعبيره- ولا تتطلب رأس مال كبير، لكنها تعتمد على الصدق مع الزبائن والذين يفضلون التعامل مع تاجر واحد، يأخذون منه ما يحتاجون كلما جاؤا إلى السوق. وتباع هذه الأخشاب بالقنطار و(الشوال)، وهناك عبوات صغيرة تبدأ من سعر جنيهين، ويرى بشير أن الزبائن من مختلف الطبقات يؤمون هذا السوق، لأن الأسعار تناسب الجميع، ويوافقه في رأيه عبد الرحيم محمد بشير، والذي تحدث عن خشب (الهبيل) والذي يساعد في علاج الرطوبة، وقال ان النساء والرجال على حد سواء يستعملونه. (6) وفي (أب روف) يضع محل عماد والذي لا يمكن أن تتجاوزه وأنت تنظر إلى (الجمال الطبيعي)، حيث أصايص الزهور بأحجامها المختلفة والمصنوعة من المواد المحلية، لكن بلمسات عصرية جميلة أكسبتها رونقاً وبهاء، ويقول منصور عمر بخيت المتواجد بالمحل أنهم يصنعون قوالباً معينة لتشكيلات أصايصهم، وبعد ذلك يأتون بها إلى المحل ليقوم عماد بتلوينها بعد اجراء عملية (صنفرة) شاقة عليها، وذلك حتى تكون أكثر لمعاناً، وتستخدم أنواع معينة من (البوهيات) والتي تعطي هذا البريق، وفي نفس الوقت تقاوم الماء، وعن زبائنهم يقول عماد أن الشركات والبيوتات التجارية وبعض المهتمين بالمشاتل يحضرون اليهم ويحددوا طلباتهم مسبقاً، ونبدأ في العمل بعد ذلك، وأحياناً يأتي بعض الناس فيعجبون بمنظر هذه الأصايص ولا تكون في نيتهم حينها الشراء، لكن المنظر الجميل يدعوهم لأن يأتوا ويشتروا منا.. (7) وهكذا نرى أن طريقة العرض في سوق أب روف هي طريقة جاذبة تسترعي الانتباه، وتدعو للتوقف عنها، وهذا بالضبط ما تم معنا، إذ اجبرنا على التوقف هناك.. وسجلنا بعض مشاهداتنا، من علائل أب روف للمزالق، كما قال مبدعنا الراحل خليل فرح الذي تمنى أن يسير حافياً عبر هذه الطرقات، وهو يستشفى بقاهرة المعز: من علائل اب روف للمزالق من فتيح للخور للمغالق