عندما يقول الناس ان حلقات الانهيار في التعليم قد اكتملت وان العملية التعليمية قد «شربت موية»، والنتيجة هذا الكم من الخريجين، من كل المستويات، الغارقين في ضعف التحصيل وقلة المعرفة، عندما يقولون هذا القول،مستدلين بمن حولهم من :الابناء والاخوان والاهل والاقارب والخريجين الذين يتقدمون للالتحاق بالعمل، يغضب المسؤولون غضباً شديداً، ويتهمون من يقول هذا القول ب «المغرض» وان هناك غشاوة لا تتيح له الفرصة لرؤية الانجازات التي تحققت في مجال التعليم. ثم يبدأون الاحصاء، وتتدفق الارقام من افواههم، كم من المدارس شيدت، وكم من الاساتذة جرى تعيينهم، وكم من الكتب اضيفت الى المنهج، كما تضاعف عدد المقبولين في المدارس والجامعات،وسيل من «الكم» ولغة «الكم»، وفيما يتحاشى المسؤولون،على طريقة الانتقال السينمائي،اي حديث عن «الكيف»، الذي انتجه هذا «الكم الرهيب»، في العملية التعليمية، والسبب بسيط ، هو ان مثل هذا الحديث، سوف يكون عارياً من الصحة ، وبلا ارجل ولا ساق، في حال انه سعى ليبرز ان هذا «الكم» قد انتج «كيفاً» جيداً. وهناك سبب آخر هو ان مثل هذا الحديث يسجل اعترافاً يضع الأمور تحت ضوء شمس السودان الساطعة، بأن هذا «الكم» الهائل ، قد اسفر عن «كيف» ضعيف، أقل بكثير عن «استاندرد» التوظيف، من حيث القدرات والتحصيل وحتى المعلومات العامة، في المرافق العامة والخاصة، ومثل هذا النوع من الاعترافات، شراك تتفادى الحكومات الوقوع في حبائلها. ومن بين أحاديث التعليم، كشف وكيل التربية والتعليم الدكتور معتصم عبد الرحيم عن اتجاه باضافة «سنتين لمرحلتي الاساس والثانوي»، ليصبح عدد سنوات الدراسة «9» سنوات لمرحلة الاساس، بدلا عن «8» الآن، وأربع سنوات للمرحلة الثانوية، وأشار الى مقترح آخر في الوزارة بالابقاء على السلم التعليمي الحالي. هذا الاتجاه المتداول في الوزارة، يعتبر درجة من درجات الاعتراف بخلل في السلم التعليمي السائد، وقد يساعد هذا الاعتراف في ترميم« السلم المكسور». فيما يتمثل الخلل في أشياء كثيرة من بينها:حشد المناهج بمقررات، هي «حشو وتطويل»، وحمولات ثقيلة من الكتب والكراسات، وربكة ما أنزل الله بها من سلطان، وذلك لتعويض «فرق اختفاء مواد» كانت مقررة في المرحلة المتوسطة. ومظاهر الخلل ان التلاميذ صاروا في حالة ارهاق «غير خلاق» بشكل دائم:عليه في الصباح ان يحمل «طنا» من الكتب والكراسات للذهاب الى المدرسة، وفي المساء عليه ان يمضي أكثر من أربع ساعات لانجاز الواجب اليومي من مقررات الحشو والتطويل. تلميذ في الصف الخامس اساس يتعين عليه في ساعات العصر ان يحفظ سوراً طويلة، واناشيد اطول ، وان يحل واجب الرياضيات والانجليزي والعربي، ولا مجال للتفكير ولا الابداع، كل الحكاية تصبح عنده«اداء واجب«كثيف وممل ومضنٍ. ومن مظاهر الخلل تحريك المعلمين الذين كانوا في مرحلة الاساس الى الاعالى «أى الى الثانوي العالي» او الى الاسفل «الاساس»، وهذه حركة خلقت ربكة صعب معها التمييز بين المعلم القوي والمعلم الضعيف. ومن هم ضحايا هذه الربكة سوى التلاميذ المساكين اليتامى، الذين بات المسؤولون في وزارة التربية والتعليم يتعلمون الحلاقة على رؤوسهم، من عام الى آخر، او من عقد الى آخر!. استمعت الى سلسلة حلقات بثتها اذاعة «ال بي بي سي» في اليومين الماضيين، حول المناهج التعليمية، ومقارنات بين الدراسة في المدارس الحكومية والخاصة، وبين التعليم في العالم الاول والعالم الثالث والعالم الرابع، من استضافوهم، عينات طلاب من أغلب الدول العربية،وهناك طلاب مشاركون من السودان، كانوا طلاباً في مدارس خاصة في السودان الدراسة فيها بالشي الفلاني، وكانوا اذكياء وشطاراً، تحدثوا بلباقة، وعقدوا مقارنات جيدة، بين التعليم الخاص والحكومي، والتعليم في الخارج وفي الداخل. ما خرجت به من الحلقات بان التعليم عندنا في السودان يجرى بنا سريعاً الى الوراء، «مما جميعو»، إلا «الكم»، وسيأتي يوم يتساوى فيه الخريج وغير الخريج، والمتعلم وغير المتعلم. يذهب التعليم وتبقى الفهلوة.