أحداث تحدث.. يربط بينها هذا الضمير الغائب الحاضر.. هي شهادة على بعض من تلك الأيام.. ربما هي الأيام نفسها تكتب نفسها! فيقلد صوتها صوت التأريخ فيتمازج فيها الخاص والعام ، فيتفرد في العام ويعمم الخاص.. هي إذاً الغناء والشعر ، وأحاديث الذات للذات.. وحارتنا هنا هي هذا الانفتاح حينما تصبح الحارة هي أم درمان كلها.. ثم تصبح أم در وطنا وينفتح الوطن على كل الفضاءات.. وتتجاور القارات..ونصبح كلنا في قلب العالم والكون الإنساني.. ونصدر هذه الأصوات .. هذه الحكايات التي هي حوار الأنا الوطني مع الآخر الكوني..وهكذا تتناسل الحكايات في حارتنا تجئ كل المدن.. يجئ الوطن.. ويحضر العالم وسط ضجيج عصرنا الحديث.. «المحرر» الوعي السوداني.. والتحولات الاجتماعية في صفحاتنا السابقة التي تحمل عنوان «حكايات حارتنا» كنا نسرد وقائع تتابع لتعطي نصاً حكائياً ذا دلالات متعددة، يمكن تأويلها وقراءتها بطرق مختلفة، ثم الوصول إلى عدد من المعاني الممكنة التي يشترطها النص.. إلا أننا الآن وهنا نتابع هذا الوعي الذي يرصد هذه الظواهر الاجتماعية ثم ينظر في تكويناتها التي شكلتها.،. ومن ثم يقوم بقراءتها ليجيب على العديد من الاسئلة التي تحيط بها.. وبذا يكون هذا الوعي الذي ينظر في هذه الظاهرات هو مجموع العلاقات التي تربط الكائن الاجتماعي بالحياة حوله.. بعض الظواهر الاجتماعية الآن: والآن.. وفي عصرنا الراهن هذا.. أصبحت مثل هذه الدراسات مهمة جداً، وذلك لأنها تفسر لا الكثير مما يحيط بالحياة الإجتماعية في فترة ما.. وكيف أنها تشكلت بهذا الشكل.. كما ان مثل هذه الدراسات تحدد لنا الطريق السليم الذي يوصلنا لإضاءة الغموض الذي يحيط بالمشكلات الإجتماعية والثقافية التي تظهر في حياتنا الاجتماعية.. لقد أضحت حياتنا الاجتماعية والثقافية الآن مليئة بكثير من الظواهر، تلك التي تحدث ولا نعرف لها تفسيراً.. فهي تحدث في الغالب الأعم فجأة وبلا مقدمات، فتصيبنا بصدمات انفعالية شديدة العمق، فنصاب بالذهول وعدم القدرة على الوعي بمعنى هذه الظاهرة، فتبدو لا معقولة وفاقدة لمبرراتها وحيثيات حدوثها، فتبدو عندئذ كما لو كانت ضرباً من أدب العبث واللا معقول هي حكايات تحدث أمام أعيننا، جهاراً نهاراً.. والغريب في الأمر.. أنه حتى ابطالها الذين قاموا بارتكابها لا يجدون لما قد فعلوا تفسيراً.. مما يجعل الأمر كلحظة من الجنون تعصف بعقل الفاعل وتجعله تحت تأثيرات قوية غامضة ومبهمة!! فإذا كان شكسبير في مسرحيته «روميو وجوليت» قد قتلهما الحب.. فذلك بسبب الالتباس الذي حدث لهما.. فقد ظن أحدهما ان الآخر قد انتحر بسبب استحالة اللقيا.. رغم ان هذا الآخر لم ينتحر حقيقة.. فقد كان يمثل دور المنتحر.. مما دفع شريكه العاطفي لليأس فأقبل مندفعاً ومنتحراً.. وهكذا أغلقت الدائرة فمات المحبان حباً! وقد كان التفسير لهذه الحكاية يرتبط بالظاهرة الاجتماعية داخل مجتمع روما وقتذاك حينما نشأ صراع حول السلطة التي تدير دولاب الحياة كلها وبكل مستوياتها في مدينة روما وقتذاك.. إذ كانت عائلتان ايطاليتان تتنافسان على قيادة المدينة، إذ تسيطر كل واحدة منهما على شطر من المدينة.. وان المحب الشاب روميو ينتمي لهذه الطائفة والفتاة المحبة لروميو تنتمي للأسرة العدوة.. لهذا كانت حكاية روميو وجوليت هي الحكاية التي تجلت فيها ظاهرة الكراهية هذه حيث عبرت الحكاية عن هذا الصراع الطبقي السياسي من خلال هذه الرموز العاطفية.. ? وفي الستينيات.. سردت الصحافة الفرنسية قصة غرامية بين معلمة وتلميذها الذي كانت تكبره بعشر سنوات.. واسمت هذه القصة بعنوان شديد الإثارة العاطفية.. إذ اسمت الرواية هذه ب) الموت حباً( وذلك عندما استنكرت مدينة مارسليا في الجنوب الفرنسي علاقة المعلمة الكبيرة السن بتلميذها الصبي المراهق.. وهي قصة يمكن ان تحدث في المدن الكبرى في الشمال الفرنسي ولكن لا يمكن ان يسمح بحدوثها في الجنوب الفرنسي الذي تسوده التقاليد والأعراف الاجتماعية الريفية التقليدية التي تسود هنا في الجنوب منذ آلاف السنين.. ولكننا ونحن الآن هنا في الخرطوم لا نستطيع تفسير الكثير من الحكايات التي تحدث! إذ تبدو لنا هذه الحكايات شديدة الغموض! لقد احتار الناس جداً.. ولم يجدوا تفسيراً.. عندما تحول رحيل الفنان محمود عبد العزيز إلى ظاهرة.. وذلك بسبب الجماهير الغفيرة التي بكته كما لم تبك مطرباً قبله.. لقد أحبت هذه الجماهير الغفيرة هذا الفنان، كما لو كان محمود أيقونة للغناء والطرب.. وهذا ما لم يحدث لفنان قبل محمود!!!.. وكان السؤال الذي تجسد عبر ظاهرة الحزن الكثيف عند رحيل محمود تتطلب تفسيراً.. وهذا التفسير يتطلب قراءة الواقع الإجتماعي في حركته الراهنة.. وكذلك صعقوا عندما رأوا محباً يقتل محبوبته!! إذاً لنفكك هذا الواقع!!.. ولننظر في الأجزاء المكونة له جزءاً جزءاً .. ثم نقرأه ونعيد تأويل هذا التركيب.. ومن ثم ينقشع هذا الغموض الذي كان يحيط بالوضع بكامله!! إننا في كثير من الأحيان نعجز عن تفسير بعض الظواهر.. أو ان كل الظواهر التي نخضعها للدراسة تفلت من بين أيدينا.. وذلك لأننا لا نجد القوانين التي يمكن ان تفسرها بشكل واضح.. وذلك لسبب أساسي.. هو ان التعقيد لا يشمل الظاهرة وحدها.. بل هو يتعداها للواقع نفسه.. فالواقع أيضاً يصيبه نفس الغموض! ? نحن نعلم ان الحب يشعل حاجة المحب للتواصل مع من يحب.. وتقوى هذه الحاجة العاطفية حتى لتصبح رغبة ملحة في امتلاك من نحب.. وبما ان المحبوب هو حرية أخرى تسعى لتحقيق امكاناتها بدورها، فينشب عندئذ عراك وصراع بين الحريتين «حرية المحب وحرية المحب» وقد يؤدي هذا الصراع لتوليد انفعال آخر مضاد للانفعال الأول، هو الحب الكاره.. الذي يتحول لكره يتطلب الغاء المحبوب واقصاءه عن الوجود والحياة.. ولهذا يقتل المحب من يحب!!.. وهذا التناقض بين الموقفين «الحب/ الكراهية» هو ما يصيبنا بالدهشة والحيرة.. ويحيط كل الحدث بالغموض.. ومن ثم يصعب علينا تفسير هذا الأمر!! لماذا عدم القدرة على التفسير؟ ? خبراتنا التي نحصل عليها من خلال ممارساتنا الحياتية، ترتبط بمواقف حياتية نواجهها داخل لحظة راهنة، ولكنها لحظة تتوارى في الماضي، ولكن عندما نواجه موقفاً جديداً يشبه ذاك الموقف القديم الذي خبرناه، فأننا نستعيد تلك الخبرة الماضية وننظر بها لهذا الموقف الجديد!.. ولكننا لا نحصل على شئ.. إذ يزداد الأمر تعقيداً، وغموضاً.. وذلك لأن كل المعطيات المنطقية للموقف القديم قد تغيرت بسبب التغيرات الأساسية التي ألمت بالحياة.. إذ توارى الموقف القديم واختفى في الماضي.. والآن نحن إزاء موقف جديد، وهو بالضرورة سيعطي نتائج جديدة وذلك بسبب التغيير الذي ألم بالواقع.. فلم يعد الواقع هو نفس ذاك الواقع القديم.. ? ان الزمان يتدفق مثل ماء النهر، ومن ثم تتجدد لحظات الزمان باستمرار.. ولهذا فإن خبراتنا القديمة التي تمثل مفاهيمنا الفكرية والتي هي المعيار الذي نقيس على هديه قيمة المواقف ومعانيها تتغير بدورها.. ? لذا يمكن ان نقول ان النظرة القديمة المستقرة لا يمكن ان تساعدنا في رؤية المواقف الجديدة ومن ثم فأننا لا نستطيع ان نرى الأشياء في المواقف المستجدة كما ينبغي لنا ان نراها.. فالواقع قد تغير، وهو يتغير باستمرار، ولهذا فعلينا ان نغير نظرتنا للأشياء.. وان نصطنع معياراً جديداً لنقيس الأشياء على غراره.. ? ان الوعي الجديد لهذا الواقع الجديد، لا يأتي اعتباطاً، بل هو نتيجة للتغيير الذي يلم بالحياة ذاتها.. لذا يمكن القول ان الحياة الجديدة هي التي تصنع الوعي الجديد الخاص بها.. الحياة ما بين الاستقرار والتحول: ما بين القيم القديمة، تلك التي انسحبت إلى الوراء، وتوارت في الماضي، يصبح هناك ما يشبه الفراغ.. إذ ان القيم الجديدة التي تصنعها الحياة لم تنجز بعد بشكل كامل ومتقن.. فهي تتخلق في بطء.. حتى ان شكلها لا يتحدد بعد في تماسك وصلابة بل هي تأخذ شكلاً هلامياً، غير محدد، وغير واضح المعالم، مما يجعلها تبدو أشكالاً ممسوخة ومشوهة لكائنات لم تحدد معالمها بعد.. ? ولهذا فإن الفن الجديد والفكر الجديد يتكون في بطء.. وهو لا يكشف عن نفسه بالكامل، لان الشكل هنا يحاول ان يتعرف على ذاته في بطء وهدوء، ومن ثم فهو يتخلق شيئاً فشيئاً.. وفي هذه الفترة التي تسمى بفترة الانتقال فإن المعايير لم تتحدد بعد لأن الأشكال والأوضاع التي تخترع قيمها ومعانيها النهائية لم تنته بعد من إنجاز كياناتها.. ولهذا السبب بالضبط تستحيل علينا رؤية الأشياء في تمام تكويناتها وفي عمق معانيها وكينونتها.. ومن ثم يستعصي علينا تفسير الظواهر الجديدة التي تصاحب المواقف الجديدة والحياة الجديدة.. وأمام صعوبة كهذه، فلا بد لنا من امتلاك وعي جديد، يستطيع ان يمسك بهذه التغيرات في الواقع وفي القيم التي يأتي بها هذا الواقع الجديد.. وإذا طبقنا هذا المنهج النقدي التفكيكي على ظاهرة الغناء السوداني الحديث.. نجد ان النموذج الغنائي العالي القيمة الذي تم انجازه في السبعينيات.. والذي يمثله غناء وردي «علي سبيل المثال» لا يمكن اعادة إبداعه.. لأن ذاك المثال الانموذج في الغناء قد صنعه زمانه.. وكذلك في الادب أيضاً.. إذ لا يمكن اعادة صنع رواية كموسم الهجرة إلي الشمال.. فإبداع وردي وإبداع الطيب صالح هي إبداعات قام بصنعها عصر كامل هو العصر الذي ظهر فيه كلاهما.. اما المسافة الراهنة التي تفصل بين إبداع ذاك الماضي وإبداع الحاضر فهي فترة الانتقال بين ذاك العصر الكلاسيكي وعصر الحداثة.م. أو العصر الجديد الذي لم يتأسس بعد كقيم جمالية وفكرية كاملة الصنع وناجزة الجمال.. فالجديد،هو ما لم يتحدد بشكل كامل وثابت ومستقر.. إنه هو تلك الكائنات الجميلة وغير الناضجة الملامح أو هي تلك الكائنات التي لم تتحدد أشكالها بعد في كامل الصلابة والتوهج.. ? وبعض النقاد يظن بطريقة خاطئة ان الجديد هو تلك الكائنات الموجودة هنا إلى جانب الكائنات القديمة التي تم صنعها قديماً جداً.. وما على الفنان الذي يشتغل بالفنون إلا الذهاب إلى هناك واحضار هذه الكائنات المنجزة من قبل والقابعة في قعر التأريخ.. الجديد الجميل.. وكائن يكتشف.. داخل هذه الحياة التي نحياها الآن.. وأننا قد لا نستطيع اكتشافه كله.. وفي هذه اللحظة الحاضرة.. والآن!!.. ان اكتشاف الجميل الجديد، يحتاج لجهد وتأمل مستمر داخل الحياة التي نحياها.. وهو اكتشاف يتم لا عن طريق التأمل فقط، بل هو أيضاً عمل مكابدة ومعاناة روحية وجسدية مضنية ودائمة.. وهو عمل تعرفه الأرواح الكبيرة والمواهب القديرة التي تصنع الجمال.. وتجعل الحياة جديرة بالعيش.. هكذا تتوالد حكايات حارتنا وتتناسل، وتستمر في حوارها الخلاق مع الكائنات حولها.. ومن خلال هذا الحوار نتحكم في مصائرنا ونوجهها الوجهة التي تطور هذه الحياة نفسها!! من خلال هذا الحوار المبدع والخلاق نستطيع ان نضئ هذه اللحظات المعتمة.. والتي تستغلق على وعينا، فنفشل في تفسير المعاني التي تحتويها هذه اللحظات.. الوعي ليس هو المادة التي تملأ أو تشغل حيزاً عضوياً داخل الجسد الانساني.. الوعي هذه الصور التي يصنعها الواقع حولنا.. وهو في ذات الوقت الطريقة التي نرى بها الأشياء.. ولهذا فإن الوعي هو وثيق الصلة بالواقع الذي يحيا فيه.. ولهذا أيضاً فإن الصلة مزدوجة بين الواقع والوعي.. فكل منهما يؤثر في الآخر.. لهذا يمكن القول ان وعينا ما هو الطريقة التي بها نعيش داخل اللحظات.. وهو أيضاً الطريقة التي نستعيد بها الماضي والطريقة التي نتو قع بها حضور الآتي والمستقبلي أو نرى بها زوال الحاضر وتواريه في الماضي.. وهكذا تتكون حكايات حارتنا في تذكاراتها الماضية، وفي حرارة حراكها في اللحظة الراهنة.. ولعله هذا السبب نجد ان كل حكاية تحوي مصيرها داخل بدايتها.. فهي كلها هنا داخل الجملة الأولى التي تكتب بدءاً.. وان النهاية هي هنا في هذه الجملة الأولى التي تمثل البداية.. تماماً كشجرة البرتقال التي تختبئ فيها البرتقالة القادمة في هذه البذور التي تدفن في الارض الآن!!