أحداث تحدث.. يربط بينها هذا الضمير الغائب الحاضر.. هي شهادة على بعض من تلك الأيام.. ربما هي الأيام نفسها تكتب نفسها! فيقلد صوتها صوت التأريخ فيتمازج فيها الخاص والعام ، فيتفرد في العام ويعمم الخاص.. هي إذاً الغناء والشعر ، وأحاديث الذات للذات.. وحارتنا هنا هي هذا الانفتاح حينما تصبح الحارة هي أم درمان كلها.. ثم تصبح أم در وطنا وينفتح الوطن على كل الفضاءات.. وتتجاور القارات..ونصبح كلنا في قلب العالم والكون الإنساني.. ونصدر هذه الأصوات .. هذه الحكايات التي هي حوار الأنا الوطني مع الآخر الكوني.. وهكذا تتناسل الحكايات في حارتنا تجئ كل المدن.. يجئ الوطن.. ويحضر العالم وسط ضجيج عصرنا الحديث.. «المحرر» هي سبع حكايات، تختلف في المبنى والمعنى، وذلك باختلاف أيام الأسبوع، ولكن الضمير الذي يرويها هو صوت بطلها الذي يعطيها هذه الوحدة.. وما على القارئ لها، إلا أن يعيد سردها بصوته هو الخاص.. ليكتشف فيها أيامه هو وحكاياته.. وهذا فقط ما يعطيها أهمية ما!! وردي.. الدوش والود أغنية «الود» كتبها عمر الطيب الدوش في شتاء «1966م».. ووقتذاك كنا الدوش وأنا نسكن وسط حي العرضة ونعمل سوياً بمدرسة «الدوش «المعرفة» غرب مدارس الأحفاد.. وكنا نلتقي ثلاثتنا محمود محمد مدني «القاص والصحفي» وعمر الدوش وأنا.. حيث كان الحوار حول الكتابة يدور بيننا بانتظام خلال أيام الأسبوع كلها.. كنا نشتري الكتب من مكتبة النهضة لصاحبها ابو الريش والذي كان في الاربعينيات رئيساً لتحرير مجلة النهضة السودانية.. ونشترى المجلات الشهرية الأدبية العربية من مكتبة المحطة الوسطى لصاحبها حامد العربي.. إذ كانت الحياة السياسية في ذاك الزمان «بعد ثورة أكتوبر» شديدة الوهج موفورة الجمال والحيوية.. ووقتذاك ذهب محمود مدني لوردي وأعطاه «الود».. وعندما أنجز وردي اللحن دعانا نحن الثلاثة لنستمع لهذا اللحن الذي شاع خبره فعم المدينة من أقصاها لأدناها.. كنا نستمع للحن من خلال شريط تسجيل بمنزل «وردي» بالخرطوم «2».. وفي الغرفة المجاورة كان صوت محمد الأمين يجلجل بأغنية جديدة تذاع من امدرمان لأول مرة.. فما كان من «وردي» إلا أن هب حافياً وهو يهرع نحو تلك الغرفة التي ينبعث منها صوت محمد الأمين.. كان ذلك هو عصر النهضة السودانية.. زمن الفن الجميل.. الفنون والآداب و الفكر السياسي الديمقراطي الحر.. وكان كل شئ ينمو ويخضر.. والحياة تشرق بكل شموسها.. وفي كامل بهائها.. وكان التنافس الابداعي على أشده بين فناني المقدمة.. فكانت القدرات الابداعية تعطي أجمل ما يمكن، والفنون كلها كانت تعمل في فضاء الإمكان وتطويع المستحيل.. وكان ان نجحت «الود» فذهب بها وردي «67» إلى القاهرة، وأعطاها للموزع الموسيقي اندريا رايدر الذي كان يوزع الحان عبد الوهاب.. فرتب «رايدر»عناصر الموسيقى درامياً.. بداية ووسط ونهاية.. وجعل الموسيقى تجري ما بين خطوطها الرئيسية والفرعية.. فتنبض كلها في الايقاع الذي يمثل ذروة العقدة الدرامية التي تأخذ فيما بعد في الهبوط التدريجي والانفراج.. بعد أغنية «الود».. اكتسبت تجربة وردي قدرتها اللحنية في التأليف اللحني والموسيقي الملحمي فجاءت أغانيه الكبرى.. «الطير المهاجر» و«طير الرهو» و«قلت أرحل» و«من غير ميعاد» فكان هناك المعمار الموسيقى والميولودي..م وكان الانتقال الدرامي من مشهد موسيقي إلى آخر من خلال فاصلات تربط بين هذا المقطع المشهدي والآخر.. وهكذا جاء غناء وردي في أطواره المختلفة مبلوراً في فكرته الجمالية الرئيسية التي تحدد السمات الرئيسية لمدرسة وردي الغنائية.. إذاً.. لم يكن اكتشاف وردي لأصوات الشعر الغنائي الجديد مصادفة.. بل هو عمل مقصود.. ان يأتي بالدوش والتيجاني سعيد ومحجوب شريف ومحمد الحسن دكتور وشادول وذلك حتى يستولد هو ألحاناً لها جدتها التي تتوافق مع هذا الشعر الجديد.. أما المرحلة التي جاءت بعد وردي فقد أثبتت ان الغناء لا يقوم على الشعر بالضرورة!!.. وهذا ما سنحكي عنه في مرة قادمة!! فضائية أم در.. وصحيفة الخرطوم في فضائية ام در.. شاهدت برنامجاً غنائياً يغني فيه «عز الدين أحمد المصطفى» لوالده الفنان الكبير.. وكان الغناء رقيقاً.. هادئاً.. وجميلا جداً، كما لو كان يصور حياة واضحة وبسيطة، ليس فيها تعقيد ولا صعوبات.. حياة مصفاة.. خالية من المنقصات والشرور .. حياة بريئة كضوء القمر وأناشيد العصافير.. وفي صباح ذات اليوم صدرت صحيفة «الخر طوم» في ثوبها الجديد المبتكر برئاسة الفنان المبدع والصحفي الكبير عادل الباز.. وكانت على عكس برنامج ام در.. كثيرة التفكر والتأنق و التعقد.. فهي تظهر ان الحياة المعاصرة ليست إلا حزمة تعقيدات.. يكتنفها الغموض ويحيط بها، حتى لتكاد رؤية الأشياء تمتنع.. وكما لو كنا نشاهد فناً عظيم التفلسف.. يحاول ان يحيط بالأشياء ليستبين جواهرها ويغوص خلف مظاهرها ليكشف أقنعتها.. إلا أننا نتوه في فضاءات هذه الاسئلة اللا نهائية.. ومن ثم نعجز عن ان نخرج من التجربة بشئ واضح وأكيد.. وهكذا تبدو الاشياء في حياتنا ال سودانية المعاصرة اليوم.. حيث الغياب التام للنموذج الذي يمثل المثال الذي يتبع ويحتذى.. ذاك المثال الذي يطارده الخيال الابداعي.. لقد فقدنا البوصلة التي تحدد اشكال وحجوم الاشياء.. والتي تحدد في ذات الوقت أبعاد المعاني في سطوح الحياة وفي أعماقها البعيدة.. غياب هذا النموذج الجمالي والفكري، جاء بسبب التحولات الحضارية العميقة الجذور والتي اعترت حياتنا السودانية على كافة المستويات.. وهناك من المبدعين من يبسط الأمور والتي اعترت حياتنا السودانية على كافة المستويات . وهناك من المبدعين من يبسط الأمور في مثل هذه الظروف.. فيقول لك.. المثال» هناك وما عليك إلا ان تذهب وتحضره.. هناك القصيدة الجاهزة المتقنة الصنع التي صنعها لنا اولئك الشعراء.. المجذوب مثلاً.. أو محمد عبد الحي.. أو درويش أو المتنبي.. مثلاً.. وهناك رواية الطيب صالح وأغنية خليل فرح وأغنية كرومة.. وهناك نماذج منجزة من صحافة السودان المعاصر.. الايام.. الرأي العام.. الصحافة.. وهكذا.وما عليك إلا ان تعيد التصوير وتكرر فيما لا نهاية!! حياتنا الآن ازدادت تعقيداً.. فلم يعد التبسيط ممكناً.. كما ما عاد التعقيد الشكلاني ممكناً أيضاً.. فنحن أمام مواقف وجودية جديدة وطازجة.. علينا ان نعي هذه الصورة المعقدة لواقعنا المعاصر هذا.. وان نجدد رؤيتنا للأشياء، حينما نجلس أمامها في الوضع الذي يساعدنا على اكتشاف النسق الذي يمثل قوة الأشياء في ارتباطها السببي.. حينما ينضاف الجزء لحركة الجزء ليمثل الحركة النهائية لبنائية هذا الواقع المتحرك.. وبمزيد من الصبر.. وكثير من الجهد نستطيع ان نبلغ شيئاً من حقيقة التغيير الذي يلم بحياتنا المعاصرة.. ومن ثم تنجح محاولاتنا الإبداعية في تغيير صور هذا العالم المحيط بنا إلى الصور الأكثر تعبيراً عن هذا الواقع المعاصر.. لماذا اتجه أحمد عبد العال للكتابة الادبية إلى جانب صنع اللوحات؟ الفنان التشكيلي الراحل أحمد عبد العال، كان يحمل فن التشكيل داخل وجدانه الإبداعي، كما يحمله عبئاً يومياً ضخماً وثقيلاً فوق كتفيه.. كان هذا الفن عند عبد العال هو المعني الكامل للحياة كلها.. وهو يصنع لوحاته الباهرة من حراك الحياة السودانية في صميم تكويناتها على مر العصور إذ كانت اللوحة تستلهم التراث الثقافي القومي.. ولكن المعضلة التي واجهها هذا الفنان الكبير صاحب الرؤى.. هي ان اللوحة لا تستطيع ان تحمل المعنى، كما تحملها النصوص الابداعية المكتوبة والقصيدة والقصة والرواية الادبية، أو المقالة النقدية».. ولهذا وجد عبد العال أنه لا بد من الاستعانة بالكتابة.. السرد الحكائي.. فكتب نصوصاً حكائية تحت عنوان «امشاج» وذلك ليكمل المعنى الذي لم تستطع اللوحة التعبير عنه.. وبذا يمكن للنقاد والدارسين ان يعيدوا قراءة عبد العال مجدداً وللمرة الثانية حتى يكتشفوا ذلك الشئ الذي ينقص اللوحة.. وما هي امكانية التعبير عن المعنى في كل من اللوحة والنص السردي الحكائي.. لقد كان عبد العال باحثاً حقيقياً لفضاءات فن التشكيل، ابداعاً وتنظيراً نقديا! فهل نفعل!!.. حتى نسد هذا الفراغ في بحث عبد العال؟؟ أسئلة للحوار الصحافة.. هل ترتفع بالنص المقروء.. ام تنافق القارئ، فتقدم له ما يعجبه فيصبح زبوناً دائماً، وبه تتفوق على منافساتها في السوق؟ هناك نصوص تشبع الروح لأنها اعتمدت على رؤية شعرية.. وهناك نصوص تعتمد على الافكار القوية.. أيهما الأكثر جدوى؟.. وهل القراءة تتطلب الجانبين معاً؟.. أشباع الروح وإشباع العقل؟ ? من هو الكاتب الذي يشد القارئ إليه؟ .. أهو من يشاركه اهتماماته.. وهمومه وأشواقه؟.. ذاك الطرف الشريك الآخر الذي يكمل حلقة الحوار المشترك!! فيما يكتب الكاتب، وفيما يقرأ القارئ.. فنانون عرفتهم باكراً الدوش وأبو ذكرى والياس.. أزمنة الصبر والجهد قال محمود مدني ذات مرة «نحن جيل بلا أساتذة .. وكان ذلك قبل نصف قرن من الآن.. وقبل سنوات قلائل ردد القاص عادل القصاص نفس الجملة.. هل هناك جيل بلا أساتذة؟.. لا أظن ان هذا القول صائب!!ليس هناك استاذ يختار تلاميذه.. بل التلاميذ هم من يختارون أساتذتهم.. وهذا الاختيار يتم على قاعدة من الشروط الموضوعية.. وهي الاسئلة الوجودية المشتركة.. والأرضية الثقافية والوجدانية.. والأهداف والأشواق والأماني المتقاسمة.. وفي النهاية تأتي التجربة المشتركة كإطار يؤطر كل ذلك.. في البداية يكون اللقاء محتوماً، وان اتخذ شكل المصادفة.. هكذا تكون البداية مثلها مثل جملة أولى تبدأ بها الحكاية.. ولكن الحكاية تنتهي حتماً بالمنطق الصارم لهذه البداية نفسها.. التقيت ثلاثتهم مصادفة.. الدوش وابو ذكرى والياس.. ومن الغريب أنهم كلهم شعراء.. ولم يكن زمن اللقاء واحداً.. هي مصادفات متفرقة عرفت الدوش أولاً.. ومن خلال هذه الصداقة.. اكتشفت ان عمر كان يحرص على إنفاق وقته متورطاً في الحياة وبالحياة.. لا يضيع الوقت في التأمل الفكري المجرد .. هو يريد «اللحظة» حارة كقطعة خبز يتقوت بها أولاً بأول.. ولهذا كان يحول الحالة الابداعية التي يعانيها المبدعون حينما يعملون.. ويبدعون نصوصهم .. كان عمر يحول هذه اللحظة الحالة إلى لحظة وجودية معاشة.،. هكذا عاش الدوش «عمر» كل نصوصه الكبيرة.. ولهذا كان مقلاً.. إذ استنفدت الحياة المعاشة كل القصائد.. أما أبو ذكرى.. فقد كان بسيطاً وبريئاً وشديد الحساسية.. وكان يكره جداان يجد نفسه في موقف يجر عليه اللوم.. لذا كان حذراً في ان يشارك الآخرين حياتهم.. او ان يشاركوه هم دواخله.. لعل هذا ما جعله منكفئاً على الذات.. صموتاً وقليل البوح.. ولعل هذه التجربة الداخلية هي ما وفرت له مادة شعرية أعانته على كتابة الشعر وذلك لقلة خبرته العملية الحياتية.. وهذا ما جعل شعره يلامس القلب مباشرة.. وان نصوصه تخلو من التعقيدات المنطقية والوقائعية.. ولهذا كان سهلاً ان يقع شعره موقع الوصول السريع للوجدان وربما هذا هو ما جعل شعره يشبه في كثير منه حبكات قصص الروس انطوان تشيكوف الذي كان أبو ذكرى يحيه حباً جماً.. أما الصديق الأصغر سناً الشاعر الياس فتح الرحمن، صاحب «مدارك» «دار النشر» العملاقة ومصدر المديح المستمر.. والتي من اجلها هجر كتابة الشعر مقارنة باندفاعاته المستمرة في البدايات.. ولعل نجاحه في الشعر وفي النشر كان بسبب اخلاصه واجتهاده وجديته.. وهو على درجة من الذكاء وانفتاح الافق على الحياة عبر تلك الحيوية الخلاقة والمبدعة على صنع التجارب ذات المعاني.. فهو لا يتحرك قط في العبث واللا جدوى.. هو يتحرك في فضاء قرارات نابعة من وعي يحيط بالتجربة الآن وغداً وهذا هو مصدر نجاحه وقوة خطه العملي الذي يؤطر كل مشاريعه الابداعية.. رغم نجاحه في مجالات النشر الابداعي.. إلا أن بعده عن كتابة الشعر يصيبه أحياناً بالحزن.. فالشعر هو رفيقه الحقيقي في الحياة.. وكنت وما زلت أقول له ..إن الطاقة الابداعية المبذولة هنا في النشر .. في صناعة هذه الكائنات الجميلة والشديدة الإبهار.. هذه الكتب التي تفوقت مدارك في ابداعها على كثير من دور النشر.. تفوقت على دار الساقي و على دار الآداب البيروتية وعلى الهلال والدار القومية المصرية للطباعة.. وجعلت الكتاب السوداني لوحة شكلاً ومضموناً لهو جهد إبداعي ضخم أخذ كل المعين من ينابيع الشعر.. وهي تضحية بالإبداع وفرح الجمال الشعري إلى ابداع آخر وفرح جمالي آخر. والسؤال هل يمكن الامساك بدفتي الفنين «النشر والشعر».. اعتقد أنه ممكن جداً.. بدليل ان الياس يعطينا قصائد باهرة هي هذه الباقات التي يصنعها كتاباً.. بل قصائد.. وفي النهاية أقول «انه تلميذي الذي أخذ أحسن ما عندي وترك لي أشيائي التي بلا قيمة.. وأنني سعيد لأنه هو نسخة جديدة، جمالاً وإفادة وليس نسخة لمخطوطة منسوخة.. فليهنأ بانجازاته الباهرة.. «واللهم لا حسد» وليبارك الله له فيما يصنع..