بينما كنت أبحث عن (ركشة) تقلني إلى المنزل ، نشبت ملاسنات ومشادات حادة بين ثلاثة مواطنين ، وسائق ركشة يعمل بنظام (المشاوير) بالمحطة القديمة بمدينة أبو سعد محلية أمدرمان ، حول الاختلاف في ثمن المشوار ، وصف أحدهم سائقي الركشات بالطمع والاحتيال على المواطنين ، والعمل على زيادة التعرفة حسب مزاجهم. غير أن سائق الركشة استغفر الله وأردف بلهجة حادة ( لو لا ظروف المعيشة لما عملت في ركشة ) ، بعدها أوضح أنه دكتور صيدلي يعمل في الركشة بعد انتهاء ورديته في إحدى الصيدليات بالثورة . استفهامات وعلامات تعجب دارت بمخيلتي تمثلت في هل حالة (عثمان ) الطبيب الصيدلي سائق الركشة عامة أم خاصة ؟ ما هو الوضع الراهن لمهنة الصيدلة ؟ سؤالان توجهت بهما إلى الصيدليات المنتشرة بوسط الخرطوم . وأثناء رحلة البحث والتقصي تأكد لي أن ثمة مشكلة تحيط بالمهنة ، وأن هناك قصة إنسانية تقف وراء كل خريج صيدلة ، و داخل صيدلية (الرحاب ) وجدت د. ( أمجد) طبيب صيدلي ، كحال كل الطلاب رسم صوراً مشرقة لمستقبله الوظيفي ، تسلقت أحلامه جدران الخيال فقرر دراسة الصيدلة ، موقناً بأن التعيين عقب التخرج أت لا محالة ، نظراً إلى أن القطاع الصحي بحاجة إلى التخصص ، إلا أن الواقع هزم كل التوقعات، فتوارت أحلامه الوردية التي نسجها في خياله خلف ثوب المعاناة ، عاش قرابة سنتين بعد التخرج يبحث عن عمل ، وبعد عناء توظف في إحدى الصيدليات على أن يعمل بها مدة أربع ساعات بواقع (100) جنيه للساعة ، وأثناء ذلك قدم لتمويل من أحد البنوك وقام بشراء الركشة الحالية .. أعطاني (أمجد ) هواتف لبعض من زملائه الذين تخرجوا من كليات الصيدلة وما زالوا تائهين بين ردهات الوزارات بحثاً عن جناح يضمهم. مات الأمل هاتفت ( محمد وعمر ) صيادلة ، عاشوا سنوات الضياع كما كتب السيناريو لها بحذافيره ، فبعد تخرجهم من كلية الصيدلة جامعة الخرطوم .. وقفت أمامهم العوائق بكل أشكالها وألوانها ، تفننوا في مجابهتها ، بداية عملوا في صيدلية بالحي الذي يقطنونه بأمدرمان براتب شهري يبلغ (300) جنيه فقط ، أثناء عملهم طرقوا أبواب الوظائف الحكومية لكنها كانت موصدة تماماً، فتسرب إليهم إحساس بالفشل ، وبعد عام من العطالة عثر أحدهم على عمل كصيدلي بواسطة عمه ، فنفض الهواجس التي ملأت تفكيره وشوهت واقعه الوظيفي وأسرع إلى ذلك الأمل الذي لم يكتمل بسبب قلة الراتب الشهري الذي لا يتماشى مع ارتفاع الأسعار . مسألة وقت أما ( أمير ) ، كتب له التنقل بين الصيدليات الخاصة والعمل بنظام الوردية بواقع مائة جنيه للساعة ، أحياناً يعمل في الصباح مدة أربع ساعات ، ومرات أخرى يعمل في وردية المساء لمدة ثلاث ساعات ، وفي كل الأحوال لا يتعدى راتبه الشهري ال(700) جنيه ، حاول البحث عن عمل في شركات الأدوية ولكن سير الأمور حوله قتل الطموح بل وصلبه ليقتات رزقه من العمل في تركيب الكريمات كمسألة وقت. واحدة منهم وهذه (نجوى ) طبيب صيدلي انضمت فترة من الزمن إلى صفوف العاطلين قسراً وتوجهت للعمل في مجال آخر بعيداً عن التخصص ، وضاعت آمالها هباء منثوراً.. هذه نماذج من ضمن عدد كبير، فهناك من ركن شهادة الطب على أرفف الدولاب واستبدلها بخبرة الحياة، وهناك من فضل الجلوس في المنزل حتى يتسنى له الحصول على وظيفة ، ولكنهم جميعاً حملوا وزارتي الصحة والتعليم العالي مسؤولية العطالة والوضع المزري الذي يحيط بمهنة الصيدلة. عدم العدالة الوضع الراهن لمهنة الصيدلة، والمشكلة الحقيقية التي تواجه الصيادلة ؟ ، سؤالان طرحتهما ، فشخص الأوجاع التي تصيب المهنة ثلة من الصيادلة العاملين بصيدليات وسط الخرطوم ، وأشاروا إلى روشتات علاجية لتضميد جراح الوضع الراهن .. (أماني عمر ) صيدلانية تألمت كثيراً لوضع الصيادلة الذين يعيشون العطالة وعملوا في مجالات أخرى ، وحسب إفادتها : تحيط بمعصم مهنة الصيدلة في البلاد مشكلات كثيرة ومتنوعة ساعدت في خلق مشكلات أخرى عديدة كالهجرة ، ودخول الصيادلة في مديونيات ، واصفة الصيدلي بأنه من يقف في الخط الأمامي في الميدان الصحي باعتباره حلقة وصل ضرورية لإنجاح كل خطة تهم الشأن الصحي باعتبار أن الصحة هي محور جميع الأنشطة ، وجميع المشروعات وجميع الإستراتيجيات والسياسات التنموية . وأشارت إلى وجود خلل واضح في تنظيم المهنة مسؤولة عنه جهات رسمية لم تسمها . أما د.(سهى عباس ) طبيب صيدلي تعمل بصيدلية الأشقاء فقد شخصت العلة في عدم وجود عدالة توزيع الصيادلة ، ودعت إلى وجوب وضع رؤية للقطاع الصيدلي في السودان لعشر سنوات مقبلة ، واتفق معها د. محمد إبراهيم طبيب صيدلي في ان توزيع الصيادلة في السودان يواجه بمشكلات ، لافتاً إلى وجود عقبات حقيقية وراء المشكلة منها التعليم وعدم التدريب ومواكبة التطورات العالمية ، عزاها إلى رفع يد الدولة عنهم ، بجانب الضبابية في تحديد مسار الصيدلي ، وتنظيم المهنة وممارسة العمل الصيدلاني ، وذكرت أن عدد الصيادلة المسجلين بالمجلس الطبي في السودان بلغ (9) آلاف صيدلي، أغلبهم عاطل عن العمل ، وفي الوقت الذي دعا فيه إلى ضرورة عدم التصديق لإنشاء صيدليات لغير الصيادلة ، قالت نهى الطاهر صيدلانية إنّ القانون الحالي يتيح لغير الصيادلة فتح صيدلية وهذه محمدة لأن الصيدليات التابعة للقطاع الخاص هي التي توظف الصيادلة وليست الحكومة . عطالة مقننة لم يخف دكتور ياسر ميرغني طبيب صيدلي وصاحب صيدلية الواحة حقيقة الوضع الراهن للصيادلة وإستنادا لحديثه ل(الرأي العام ) ، تجاوز عدد الصيادلة الآن ال( 13) ألف صيدلي ، وهذا العدد يفوق حاجة البلاد إذ يبلغ حجم العاملين في الحكومة في كل ولايات السودان 800 صيدلي ، بينما يحتوي القطاع الخاص (صيدليات شركات مصانع ) عدداً لا يتجاوز ال(4 ) آلاف صيدلي ، وهناك حوالي (2000) صيدلي إما عاطل أو ترك المهنة وامتهن مهنة أخرى ، والواضح أن المشكلة تكمن في سياسات التعليم. فكليات الصيدلة درجت على تخريج أعداد أكثر من المطلوب سنوياً ، فهناك كليات تم التصديق لها من التعليم العالي بقبول ( 40) طالباً ، لكنها تتخطى العدد وتقبل 85 طالباً منهم 40 طالباً على النفقة الخاصة ، هذا يؤكد عدم وجود رقابة من التعليم العالي على كليات الصيدلة وعلى سياسة القبول . وكانت لجنة اعتماد (كليات الصيدلة والطب (Awago) ) ، التي كونها المجلس الطبي السوداني قد أمرت بإغلاق بعض الكليات ، ولكن حتى الآن لم يتم إغلاقها ، من هذا المنطلق يجب على المجلس الطبي نشر تقرير اللجنة (الخطيرة ) كما وصفها د. ياسر حتى يعلم المستهلك الصورة الحقيقية لواقع كليات الطب والصيدلة بالسودان. بعد ذلك انتقل محدثي لاتجاه آخر ذي علاقة وثيقة، وهو يؤكد أن الوظائف الحكومية للصيادلة شبه معدومة ، فهناك جهات صيدلانية ك(الإمدادات الطبية ) ، كانت تتبع نظام التعيين المباشر للصيادلة في وقت سابق دون مراعاة لديوان شؤون الخدمة ، وحالياً هناك ما بين ال(30 50) وظيفة حكومية يعلن عنها سنوياً ونسبة لضعف الفرص المتاحة يمكن القول إن القطاع الخاص هو الموظف الحقيقي للصيادلة ، لكن هناك صيدليات يمتلكها أشخاص ليسوا صيادلة تواجه تعسفاً في التوظيف مما دفع بهم للمطالبة بأن تكون الساعة ب (150) جنيهاً في اليوم في حين أن معظم الصيدليات الخاصة التي يمتلكها صيادلة يدفعون أكثر من المبلغ المطلوب ، هذه الأسلوب الذي ساد اعتبره محدثي بدعة فرضتها ظروف قلة الوظائف المعروضة ، فمسألة العمل في الصيدلية مرتبطة بسنين الخبرة ، ومن غير المعقول أن يتم توظيف صيدلاني حديث التخرج بساعة ثمنها 150 جنيهاً ، في وقت يكون هنالك صيدلي خبرته (10) سنوات يعمل بنفس الراتب ، واعتبر أن مسألة تحديد الساعة ب(150 )جنيهاً فيها إجحاف للصيادلة ذوي الخبرات . واسترسل بالقول (أنا مثلاً أدفع أكثر من المبلغ المطلوب في الساعة لأنني أعلم جيدا التزامات الصيدلي وغلاء المعيشة )، موضحاً أن العلاقة بين إدارة الصيدلة (وزارة الصحة ولاية الخرطوم ) والصيادلة لا تتعدى حدود تسجيل اسم الصيدليات في الوزارة ، مشيراً إلى أن الوضع الراهن ساهم في هجرة الصيادلة للعمل بالخارج ، مقترحاً عدداً من الحلول لإنقاذ الوضع تمثلت في أهمية إلزام شركات الأدوية بتكوين مكاتب علمية تهتم بتدريب وتوظيف الصيادلة ، مع ضرورة أن يتم تعيين ولو صيدلاني واحد في أية شركة مسجلة تعمل في مجال الأدوية ، الأمر الذي يفتح وظائف جديدة للصيادلة بمن فيهم الخريجون الجدد الى جانب أهمية زيادة عدد الصيادلة في القطاع الحكومي وذلك بخلق وظائف لهم ، والالتزام بقرار وزارة التعليم العالي الخاص بتقليص عدد الدراسين للصيدلة في الجامعات المختلفة . المشكلة عامة فيما شخص د. صلاح سوار الدهب الأمين العام لاتحاد الصيادلة الحالة بقوله : مشكلة التوظيف حالة متفشية في كل دول العالم ولا علاقة لها بمهنة الصيدلة ، فعصب المشكلة يكمن في عدم وجود تناسق بين الأعداد المتخرجة من الجامعات والوظائف المتاحة ، ويجب أن يعي الجميع أن الصيدلة مهنة خاصة (خدمية استثمارية ) والتوظيف فيها يتم من جانبين ( حكومي وخاص) .الحكومي لم يشغل الصيدلي فيه حيزاً منذ سنوات ولكن بعد تطور واتساع رقعة الخدمات أصبح يشكل حيزا أصيلاً ، لافتاً أن النسب في التوظيف بين القطاعين العام والخاص في الصيدلة متفاوتة جدا ، فالقطاع الخاص يشغل 80% من عدد الصيادلة وهؤلاء موجودون في الشركات وصيدليات المجتمع بالتالي نسبة التوظيف للصيدلي قليلة جدا في القطاع الحكومي وذلك لارتباط التوظيف بوزارة المالية وغيرها من الجهات ، أما القطاع الخاص موازينه واسعة، لكن التوظيف كله ينحصر في ولاية الخرطوم ، والتراكم الواقع الآن سببه عدم التوسع في الولايات ، وأقر بوجود تعثر في توظيف الصيدلانيات من خريجات الجامعات بنسبة (70%) وأن الصيادلة يرفضون العمل بالولايات التي إذا طرقها أي خريج يجد مناله ، داعياً وزارة المالية إلى رصد ميزانيات تدعم بها عملية التوظيف ، ويجب أن يعي الطلاب أن دراستهم الصيدلة خدمة للسودان كله وليس لولاية الخرطوم ، وأي طالب عليه أن يدرسها بقناعة ورغبة وليس (قشرة ). أخيراً ماذا إذا تمت مراجعة خطة وزارة التعليم العالي فيما يتعلق بمسألة القبول للجامعات، بالتأكيد سيكون للحياة أنفاس عطاء مستمرة لا تغيب شمسها ولا ينتهي طموحها، ويمكن أن نستنشق في صدرها تصحيح وضعٍ يجب أن يصحح. والسؤال المطروح هل سنحتفل مع خريجي الصيدلة بنهاية مسلسل سنوات ضياعهم أم أن هذا الأمر بحاجة لتفصيل جديد كي نراه واقعاً ملموساً ؟