ما أن يصبح الصباح ، وترسل الشمس أشعتها معلنة بداية يوم جديد ، تعتلي (سيدة) مقعدها الحديدي لترفع رأسها ب(الحوش) إلى جارها (سائق الحافلة لتذكره بأن لا ينسى أن يترك لها مذياعه قبل خروجه إلى العمل ، لتقضي يومها بين الإذاعات وهي منهمكة بين (شغل البيت) و(برامج) الإذاعة المتنوعة ، وعندما يأتي وقت (قيلولتها) وقت الظهر تفتحه وتضعه بالقرب من أذنها وهي مسترخية، و(سيدة) تحفظ برامج الإذاعة وأوقاتها ومقدميها ومخرجيها ومنتجيها عن ظهر قلب ، حتى الرياضية منها وذلك على الرغم من وجود (التلفزيون) في منزلها ولكنها تفضل المذياع وبرامجه!! ومثلها كانوا كثيرين إلا أن تكنلوجيا الاتصال سحبتهم من (الراديو) وصار يختفي شيئاً فشيئاً خاصة في المدن الكبيرة وأريافها ، وحلت (الموبايلات) محله. (1) إلا ان هناك من له معزة خاصة مع (الراديو) ويستعصي عليه فراقه ومنهم الحاج (محمد زين) موظف بالمعاش، فهو يقول: مازال هناك من يستمع الى (المذياع) ويفضله على غيره من وسائل الاتصال والتثقيف والترفيه ، مبيناً ان المسألة ليست مسألة تفضيل او اختيار شخصي ، بل ان (الراديو) يمتلك من المقومات والمواصفات ما يؤهله حتى يومنا هذا للقيام بدور تعجز وسائل الاتصال الأخرى عن القيام به، لذلك تحتل الإذاعة مكانة مرموقة في ترتيب وسائل الاتصال من حيث صفة كونها بناءة، وقال (حاج زين): في الإذاعة يتلقى المستمع كل ما يمكن ان يكون مكتوبا ومعه الموسيقى والغناء!! بينما تؤيده (سنية النور) ربة منزل في حديثه بقولها: الراديو أقدر على أن يقيم علاقة حميمة مع المستمع، لأن المرء إذا كان مستلقياً في آخر يومه، يستعد للنوم، فهو يطفيء النور، ويأخذ في الاستعداد للنوم باسترخاءة جميلة، فيشغل الراديو قرب سريره، ويستمع بل لعله يستمتع بما يختاره من برامج ولا تستطيع أن تستلقي لمشاهدة التلفزيون على هذا النحو، لأنه يشترط استواء الرأس للمشاهدة، وتيقظ عدد من الحواس!! وقالت:حتى (القراءة) تتطلب ان تكون متيقظا وعينيك مفتوحتين ومركزا حتى تفهم ماهو (مكتوب). وقالت:مع كل ذلك تكون الإذاعة هي الأولى من بين كل وسائل الاتصال!! وقالت (معزة كمال) طالبة الماجستير: ان الواقع يوحي بالتنافس بين الإذاعة والتلفزيون، و أن جمهورهما واحد، فثمة أوقات وأماكن تنفرد فيها هذه الوسيلة عن الأخرى، ولا تستطيع الأخرى منافستها، ففي السيارة الراديو هو الملك المتوَّج، وقالت: في البيت غالبا مايكون (التلفزيون) هو المسيطر على أفراد الأسرة، وأضافت (معزة) و في المقابل لم نعد اليوم نستطيع أن نتخيل شخصاً يستمع إلى وصف مباراة كرة قدم في التلفزيون وانما الاستمتاع بوصف الكورة من (الإذاعة) هو الممتع وبالتالي لا يمكننا القول بأن الإذاعة أصبحت في خبر (كان) كما يعتقد الكثيرون! (2) ومن ناحية اجتماعية حدثتنا(نهلة حسن البشير) الباحثة النفسية والاجتماعية وقالت ل(الرأي العام):عند الحديث عن الإذاعة فإن الخيال يكون الرهان في احتفاظ الإذاعة بهيبتها وتفردها، فضلاً عن توسعها وسهولة انتشارها كالهواء، لتشمل دائرتها المتعلم والأمي، الفقير والغني على السواء، وتتميز دائرة التأثير الإذاعي بأنه أكثر حرية في الحركة من التلفاز، فجمهور الإذاعة يتمتع بإمكان الحركة، والعمل في أشياء متعددة أثناء متابعة الأخبار أو برامجهم المفضلة، بالإضافة إلى قدرتهم الدائمة على الاستماع إلى الإذاعة وهم يتحركون في سياراتهم، وهذه ميزة الإذاعة الأبدية!! وأشارت الى ان للإذاعة مدمنين ادمانا ممتعا ، وصاروا يتبعون شبه مراسم وطقوس للاحتفال بساعة النوم، وصار (المذياع) عندهم محورا ومحركا أساسيا لمواعيد تخرج عن إطار لحظة الاستماع نفسها، لتصبح جزءا من سياق نومهم ومراحل اليقظة والحركة والراحة والعمل والاسترخاء!! (3) في الخمسينات من القرن الماضي، وعند انتشار التلفزيون، ساور بعض العاملين في مجال البث الإذاعي القلق من مصير الراديو بصفته أداة اتصال جماهيري، مع ميلاد وسائل جديدة منها (الآيبود) ، و(الإم بي3) فهل لهذا القلق صدى الآن؟؟ عدد من الإذاعيين أكدوا ل(الرأي العام) على ان جاذبية المذياع مازالت موجودة ولم تستطع اي من أجهزة الاتصال الحديثة سحب البساط منه!! مشيرين الى تميز الإذاعة بفردها لمساحة من التأمل وتواضعها في شغل اهتمام حاسة واحدة، لتبقى الحواس الأخرى تتفاعل مع المحيط، ويبقى السؤال عن مناهج الاتصال الحديثة وتزاحمها الصُوَرِي للظفر بأوسع الاهتمام عند المستمعين، وقال (عوض أحمدان) مدير إذاعة (صوت الامة: ما يميز الإذاعة دون غيرها من وسائل الاتصال، أنها وسيلة الاتصال الوحيدة التي يمكنك استعمالها أينما كنت، بكل ما للكلمة من معنى، لتخاطب مستمعا أينما كان، إذ تكون دائرة الحاسة الخاصة بها أوسع بكثير من دائرة البصر، وبذا يكون مجال الحركة معها ممكناً، فيما تكون الوسائل الأخرى (التلفزة والإنترنت والصحف والكتب) محدودة ضمن مكان التلقي ، ولقد أصبحت للإذاعات موجات أخرى للبث، ووظفت موجاتها لتكون بمثابة موجات الرادار الحربية تارة، وموجات لخطاب مُثير عند البعض ومؤيّد عند البعض الآخر!! ويوضح (احمدان) سمتين أساسيتين تمتاز بهما الإذاعة على الأجهزة الجديدة، فالإذاعة تعطيك الخبر عندما يقع أي شيء، الآيبود لا يعطيك الخبر، الإذاعة تأتيك بالمفاجأة عندما تستمع إلى الأغاني، الآيبود لا يعطيك المفاجأة، فأنت سجلت ما في الآيبود وتعرف ما ستستمع.. وقال هذا هو الاختلاف و الفرق بين(المذياع) والأجهزة الأخرى، مهما تقدم العلم وخرجت أجهزة اتصال جديدة سيظل بريق (الراديو) موجوداً!!