هذا شطر الآية الكريمة، من سورة الإسراء الآية (85) (ويسألونك عن الروح ، قل الروح من أمر ربي ، وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً). وفي الحقيقة لم يسألني أحد عن هذا الموضوع ولكن قضية الروح والنفس والجسد ، تظل تشغل المتأمل ويبدو لي أن انتباهي للموضوع مرده إحساسي، أحياناً أحس بأني أحمل جسدي أكثر مما يحملني، وأنّ محتواي شيء وجسدي شيء، وأحياناً رغبات الجسد تتعارض مع المرجعية الروحية والفكرية، وتكون الغلبة أحياناً للجسد وأحياناً للمرجعية الروحية والفكرية. وأمر الروح محفوف بقصور النظر ومحدوديته، وقلة العلم «وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً « أي أن كل علم البشر من الأبد إلى الأزل، لا يحيط بأمر الروح، لأن علم البشر قليل ونسبي، في الكون وفي التاريخ وفي الجغرافية دعك من عالم الغيب، وكل هذه الوسائل المسخرة في تحصيل العلوم من مختبرات ومكتبات وعلماء يعملون بصورة دؤوبة، هم في سعي مبارك ولكنه في النهاية سعي نسبي ولا يملك أن يخرج من حيز وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً. وإذا كان علم البشر، بأنبيائهم وفلاسفتهم علماً قليلاً بذواتهم، فإن المصاحب لهذا القلم - وأرجو ألا يكون مدعياً لصحبة لم تتوافر شروطها- لم يستوف حتى بضاعة القليل، ولكن مع ذلك يطل برأسه من تحت الأنقاض، عسى أن يستشرف شيئاً عن هذا العلم الروحي. الفكرة العامة، أن الإنسان جسد وروح، وأنّ الروح شيء غير مادي وغير محسوس ولكن مع ذلك فإن الروح هي قوام الحياة وهي قوة لطيفة غير محسوسة ، مثل الكهرباء التي تسري في السلك- السلك مجرد حامل لها، ولكن الكهرباء في تدفقها تسري - مع الفارق بين الروح والكهرباء، لأن الكهرباء تمثل صاعقاً يذهب بحياة الحي، والروح قوام الحياة وإن لم يتوقف عليها الإدراك، لأن في الجنون وفاقد العقل والداخل في غيبوبة روح. كما أن لا قوام للروح دون السلامة الجزئية للجسد، فحينما تقطع الرأس وتنزع القلب تذهب الروح. وفي قصة أهل الكهف إشارة لطيفة، حيث إن الروح لم تفارق أجساد الفتية، الذين ذهبوا في نوم عميق الله أعلم بسره، وحسب النص القرآني: (فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عدداً) أي أن سلطان ما حدث لهم يتعلق بسلطان سلط على آذانهم، فعزلهم عن عالم السمع أو ما يؤدي لإحساسهم بحركة الزمن والانتباه لما يجري فيهم أو حولهم. وتقوم قصة الخلق في المفهوم من النص القرآني، على نفخة الروح وقبضة الطين «فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» سورة الحجر الآية (29). والإشارة هنا لخلق آدم، الذي لما انتهى تشكله إلى أحسن تقويم، أصبح قابلاً لنفخة الروح ولولا نفخة الروح لظل قبضة طين أو صلصالاً، أو حتى مجسماً أو هيكلاً. والروح ترمز للبعد العلوي، وكما عبّر عن ذلك أبن سينا رامزاً: هبطت إليك من المحل الأرفع. فالروح من أمر الله ولها خاصية التشكل كما ورد في سورة مريم الآية (17) (فأرسلنا اليها روحنا فتمثل لها بشراً سوياً) وفي موضع آخر في سورة البقرة الآية (87) «وآتينا عيسى بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس». وفي قصة خلق المسيح عليه السلام إشارات مهمة، وإماءات لقضية الروح، حيث ولد من أم ولكن دون أب، فطغى فيه عنصر الروح، وآدم خلق من مادة الأرض من غير أب ولا أم ولكن استحال بشراً سوياً لنفخة الروح، وحواء لم يرد اسمها في القرآن، ربما لأنها مردودة إلى أصلها آدم «وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة» سورة البقرة الآية (35)، وفي الأثر أنها خلقت من ضلع آدم. ويظل الذكر مشدوداً إلى ضلعه والله أعلم. وورود كلمة روح، فيه دائماً لطف وأمر لا نستنكهه، أنظر إلى قول يعقوب في سورة يوسف «أني لأجد ريح يوسف لولا أن تفندون» أو قوله «يا بني أذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تأيسوا من روح الله أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون». والمهم نجتهد ونتحسس أمر الروح ونرجو إن أخطأنا أن يكون لنا أجر المجتهد علماً بأننا لم نقل شيئاً .. والله أعلم.