مشهد درامي بامتياز، ومن النوع الذي حاز المصريون عبر إجادته على إعجاب العرب لسنوات طويلة، انتقل فور انتهاء مباراة المنتخب المصري لكرة القدم مع نظيره الجزائري، إلى وسائل الإعلام المصرية، قلب المشهد الدرامي، لم يكن خسارة المنتخب المصري لنتيجة المباراة الفاصلة التي جرت على ملعب نادى المريخ بأمدرمان بهدف يتيم، وبالتالي خسارة فرصة التأهل لنهائيات كأس العالم لكرة القدم للمرة الأولى منذ ثلاثين عاماً، بل كان قصة من صناعة جهات داخل الميديا المصرية بطلها الأول هو المطرب محمد فؤاد، قصة يفترض أن تفاصيلها دارت في قلب الخرطوم، عندما هاجم مشجعون جزائريون باصاً كان ينقل فنانين مصريين في طريقهم إلى المطار ورشقوه بالحجارة والسكاكين، وسط غياب عناصر الشرطة السودانيين، --------------------------------------------------------------------- وفي وقت متأخر من ليلة الأربعاء اتصل برنامج ليلي على إحدى الفضائيات بمجموعة فنانين قالوا إنهم محاصرون داخل بيت سوداني بينما الجزائريون بسكاكينهم يبحثون عنهم لذبحهم، وصاح فؤاد عبر الهاتف: (أنا محمد فؤاد يا عم... احنا بنموت.. معايا هنا ناس بتموت). لم يمت ليلتها في الخرطوم بالطبع المطرب محمد فؤاد أو أي مصري أو جزائري أو سوداني آخر، فباستثناء جروح طفيفة أصيب بها مصريون كانوا في باصات ثلاثة تم رشقها بالحجارة، وإحتكاكات فردية أخرى لم يصب أحد بسوء، على الرغم من الأجواء المشحونة بالتوتر، والتي انتقلت إلى الخرطوم، بفعل حالة الهيجان في الإعلامين المصري والجزائري التي سبقت المباراة، بيد أن الصورة التي كانت تعرض على الشاشات المصرية، الأربعاء وصبيحة الخميس، وأحاديث بعض العائدين من الخرطوم، كانت توحى لمن يتابعها بأن المصريين تلقوا (علقة) ساخنة في السودان على أيدى الجزائريين، بينما كانت الشرطة تجلس على مقاعد المتفرجين، أو تعترض على المصريين طريق المغادرة. ما منح الموضوع غطاء رسمياً، كان تصريحات من النوع المثير أطلقها أنس الفقي وزير الإعلام المصرى، نقلتها عنه صباح الخميس صحيفة (الجمهورية) المحسوبة على الحكومة المصرية، قال فيها: (إن السلطات السودانية إن لم تكن قادرة على حماية المصريين في الخرطوم فإننا سنرسل إليهم من يحميهم هناك)، وأتى الأشد اثارة لاحقاً عندما نقل موقع اليوم السابع عن عفيفي عبد الوهاب سفير القاهرة في الخرطوم قوله: (جاري إرسال قوات مصرية إلى السودان لتأمين المشجعين المصريين عقب تعرضهم لإعتداءات من قبل الجماهير الجزائرية). تصريحات عبد الوهاب، دعت وزارة الخارجية لإستدعائه يوم الخميس وإبلاغه بواسطة علي كرتي وزير الدولة بالخارجية احتجاج السودان ورفضه للنهج الذي اتبعته أجهزة الإعلام المصرية في الإساءة للسودان والنيل منه بطريقة غير مقبولة عقب المباراة، وأبلغ كرتي السفير أن أجهزة الإعلام المصرية كان حرياً بها عكس التجهيزات الكبيرة التي أعدها السودان والخطة الأمنية التي نفذتها الحكومة، عوضاً عن التذرع بحادثة فردية للإساءة للسودان وشعبه، وطالبت الخارجية السفير بتصحيح الوضع. الوضع المتوتر بين القاهرةوالخرطوم الذي أسفرت عنه المباراة، في الإعلام على الأقل، وللمفارقة، ربما كان هو بالتحديد ما رغب السودان في تفاديه، فكثيرون حذروا من عواقب أمنية أو دبلوماسية قد تترتب على ما يمكن أن يحدث قبل اللقاء أو بعده، ورغم أن الخطة الأمنية التي نفذتها السلطات نجحت في الخروج بأقل الخسائر - كدمات وإصابات طفيفة في حوادث معزولة - لكن الطريقة التي تناولت بها الميديا المصرية الحدث، فضلاً عن التصريحات المنسوبة للفقي وعفيفي، قادت بصورة أو أخرى إلى الاقتراب من المحظور، إن لم يكن إليه مباشرة. الشرطة، عقدت مؤتمراً صحفياً تحدثت فيه بلغة الأرقام، إذ وصل إلى الخرطوم قبل المباراة حوالي تسعة آلاف ونصف الالف من المشجعين الجزائريين، وثلاثة آلاف ونصف الألف من المصريين، وألف صحافي ومائتين وخمسين إعلامياً، فيما نشرت الشرطة خمسة عشر ألف جندي للقيام بأعباء التأمين، وقالت الشرطة إنها نجحت في الفصل بين جمهور الجانبين سواء في الملعب أو المطار أو الطرق أو المسارات التي خصصت لكل منها. القصص الدرامية حول (المجزرة) المزعومة للمصريين في الخرطوم التي نسجتها بعض وسائل الإعلام المصرية، يضعها البعض في خانة محاولة الهروب من الهزيمة في الميدان الأخضر، ومن خيبة فقدان الفرصة في التأهل إلى نهائيات كأس العالم، إلى إثارة قضايا على هامش الحدث الرئيسي، خسارة نتيجة المباراة بهدف يتيم، ويقول السفير إبراهيم محمد علي - الخبير الدبلوماسي - إن الضجة التي أثارها البعض في الإعلام المصري مجرد (تنفيس) عن صدمة الهزيمة، وأعتبر أن الموضوع لم يكن يستحق أن يتحدث فيه مسئول - في إشارة إلى تصريحات الفقي وعفيفي - خاصة وأن السلطات بذلت جهداً كبيراً لتأمين المباراة، ويتفق السفير فضل عبيد مع من يرجعون الضجة إلى صدمة الخسارة، ويقول إن المهزوم عادة يبحث عن وسيلة تخرجه من ورطة الهزيمة، وكانت الوسيلة في حالة مباراة مصر والجزائر هي صناعة قصة عدم تأمين السلطات في الخرطوم للمشجعين المصريين كما يجب، ولا يتوقع عبيد أن تتطور الأمور إلى أكثر من ذلك. أن تكون الأحداث الإعلامية الأخيرة مجرد سحابة صيف عابرةربما كان تحليلاً وأمنيات في ذات الوقت بالنسبة لكثيرين، إذ أن قضية المباراة مع الجزائر أصبحت بالنسبة للمصريين - بشكل أو آخر - قضية وطنية بالغة الحساسية، حملت مسئولين كباراً على القدوم إلى الخرطوم ودخول ملعب المباراة، من بينهم جمال وعلاء نجلا الرئيس مبارك، قدوم يعكس ثقل الحدث في حسابات القاهرة السياسية الداخلية والخارجية، ومن بوابة الحسابات الأخيرة تبدو تصريحات وزير الإعلام المصري وبعده السفير في الخرطوم أكثر من مجرد عبارات انحرفت قليلاً خارج النص، خاصة وأن القاهرة لم يعرف عنها إطلاق تصريحاتها كيفما اتفق. استدعاء الخارجية لعفيفي وإبلاغه إستياء الخرطوم من الضجة وعدم تقدير جهودها، ليس بالحدث العابر أيضاً، فالاستدعاء، أي استدعاء، هو في الاعراف الدبلوماسية بمثابة عدم رضاء، فالعلاقات السودانية المصرية رغم استقرارها في مربع التقارب والتفاهم طيلة السنوات الماضية، إلا أن ملفات كثيرة ترقد في أدراج كلتا العاصمتين، كفيلة في حالة الاقتراب منها بتغيير الصورة، صورة قد تغيرها أيضاً مستجدات من قبيل زيارة قال الرئيس الجزائري بوتفليقة أنه يتطلع للقيام بها قريباً إلى الخرطوم. البعثة الدبلوماسية المصرية في الخرطوم تبدو عليها الرغبة في طي ملف المباراة، فحديث معتز مصطفى قنصل مصر في الخرطوم، على خلاف الحديث المنسوب للسفير عفيفي - الذي اعتذر عن الحديث مع (الرأي العام) حول الموضوع مرتين يوم الخميس- بدا ساعياً للملمة القضية وتهدئة الخواطر، ويقول القنصل إن العلاقات بين السودان ومصر أكثر عمقاً من أن تتأثر بأي حادث أو حديث، وأكد على الدور الإيجابي لأجهزة الدولة السودانية كافة، خاصة جهازا الأمن والشرطة، وأضاف ل (الرأي العام) أن اللجنة المكلفة بتأمين المباراة أطلعتهم على عملها، وقال إنها نشرت خمسة عشر ألف جندي كانوا جزءاً من خطة أمنية ناجحة، وأضاف - على سبيل المبالغة ربما - أنه لا توجد في العالم كله إجراءات أمنية مماثلة. القنصل ألقى باللائمة فيما حدث على (الممارسات) التي اتسم بها التشجيع الجزائري، ما حرم اللاعبين والجماهير من الاستمتاع بالمباراة، ويبدو حديث القنصل فيما يتعلق بفقدان المباراة للمسات الممتعة صحيحاً، فالمباراة من الناحية الفنية افتقرت إلى جماليات كرة القدم كما يقول الرياضيون، لكن الصحيح أيضاً أن القصص الدرامية التي نسجتها بعض وسائل الإعلام المصرية حول السودان على خلفية المباراة إفتقرت إلى المتعة التي اعتاد عليها السودانيون لدى متابعة الدراما المصرية، إذ أنها بدت (مسيخة) بالنسبة لهم.