أرجو أن يكون في حديث بعض قيادات تحالف المعارضة عن دعوة المؤتمر الوطني الى التنحي عن السلطة وتسليمها الى الشعب من باب التكتيكات والتصريحات التي أعقبت مسيرة الأثنين أكثر من كونها حديثا جديا ينشغل به من أطلقوه ناهيك عمن يستهدفه. فقد رأينا من قبل الى أين انتهت الدعوات حول عدم شرعية الحكومة واقتراح سلطة انتقالية محايدة تجري الانتخابات. وعندما أزف وقت الجد انتقلت الحركة الشعبية بكل بساطة الى صف الحكومة ضاربة عرض الحائط بحلفائها من تجمع المعارضة ولتؤكد على شرعية الحكومة القائمة ومؤسساتها. ومع اقتراب موعد الاستفتاء على حق الجنوب في تقرير المصير، فإن الحركة لن تتلاعب في هذا الجانب خاصة ولبعض حلفائها في تجمع المعارضة اعتراضات على اتفاقية نيفاشا. الدعوة الى تنحي النظام القائم وتسليمه السلطة لحكومة انتقالية ليست جديدة. فقد جربها السودان في العام 1964 في اطار ثورة أكتوبر المجيدة، ولو نجحت ترتيباتها لما انتهى بها الأمر الى الانقلاب المايوي بعد سنوات أربع. وتم تكرار ذات التجربة في انتفاضة أبريل 1985، التي أعقبتها حكومة انتقالية لعام واحد بهدف اجراء انتخابات عادلة حرة ونزيهة. لكن ذلك لم يمنع من وأد التجربة في انقلاب الانقاذ بعد سنوات ثلاث. والأمر كذلك فما الذي سيجعل من اعادة تجربة الحكومة الانتقالية وتسليم السلطة الى ممثلي الشعب على افتراض الاتفاق على تعريفهم، مخرجاً قابلاً للحياة هذه المرة؟. والمفارقة أن يوم الأثنين الذي شهد الأحداث إياها بسبب سوء تقدير المؤتمر الوطني للنتائج السياسية والاعلامية لقرار حظر المسيرة تحت ذريعة حجج اجرائية وبيروقراطية عقيمة واختلاط الأجندة لدى أحزاب تحالف جوبا، كان هو آخر يوم للتسجيل للانتخابات ويفترض في دعوات المعارضين الى انفاذ التحول الديمقراطي أن يستغلوا المناسبة لتسجيل جماهيرهم، وكذلك في المؤتمر الوطني الداعي الى تغيير السلطة عبر صندوق الانتخاب ألا يندفع في اجراء يعطل أو يؤثر سلباً في آخر يوم للتسجيل. وفي هذا ما يشير الى تساؤل حول مدى عمق إيمان هذه القوى السياسية بالتحول الديمقراطي حقيقة. الأرقام الأولية المتاحة تشير الى أن نسبة التسجيل تجاوزت ال (70%)، وهذا مؤشر فأل حسن، انه رغم ضعف التوعية السياسية والاعلامية في البداية والأحاديث المتكررة عن الخروقات التي قام بها المؤتمر الوطني، الا ان هناك اهتماما شعبيا بالتسجيل وممارسة الحق الديمقراطي، والى هذا ينبغي أن ينصرف الجهد والخطط والبرامج والتنسيق من أجل الانتخابات في غضون خمسة أشهر. فالديمقراطيات تكتسب حياتها وثقلها من الاهتمام الشعبي بها حضورا وممارسة عبر التسجيل والانتخاب. ومع انه لم تنشر بعد تفاصيل لترسم خريطة لنوع الناخبين الذي سيشاركون في أول انتخابات منذ أكثر من عقدين من الزمان ويقدر أن يراقبها نحو ألفي مراقب دولي، الا انه يمكن القول بسهولة وأطمئنان إن النسبة الأكبر من هؤلاء الناخبين ممن يخوضون التجربة لأول مرة. فحتى الذين كان عمرهم (15) عاماً في آخر انتخابات عام 1986، لم يسمح لهم وقتها بالمشاركة لصغر سنهم، كما أنهم هم الذين تحملوا عبء سياسات الانقاذ فيما بعد سواء عبر حملات الخدمة الوطنية العسكرية في السنوات الأولى للانقاذ أبان اشتعال المواجهة العسكرية مع الحركة الشعبية وسياسات التحرير الاقتصادي التي لا تزال تلقي بآثارها عليهم من مختلف الجوانب، أي ان المعارضة للانقاذ ستأتي من جيل الانقاذ أساسا. وهؤلاء لا يحتاجون لمن يحدثهم عن الانقاذ وانتقاد سياساتها، لكنهم يحتاجون الى خطاب جديد وخلاق يحدثهم عن البدائل من برامج وسياسات وقدرة على التنفيذ. والى هذا ينبغي أن ينصرف الجهد واستغلال الوقت المتاح من قبل تحالف جوبا. يحتاج هذا التحالف بداية الى الأعلان أنه سيخوض الانتخابات. فخيار المقاطعة الذي يلوح به البعض ليس خيارا سياسيا وتسليما مبكرا بالهزيمة. والمعارضون يعرفون ان الانقاذ أجرت انتخابات كانت تنافس فيها نفسها ورغم ذلك مضت قدما استنادا الى شرعية الأمر الواقع، فما بالك الآن وهناك فرص أفضل في التسجيل واتساع رقعة المشاركة الشعبية أضافة الى الرقابة الدولية، علما ان المجتمع الدولي بعد التجارب الفاشلة لادارة بوش في زرع الديمقراطية أصبح على قناعة أكثر انه لا يمكن إعادة انتاج الممارسة الديمقراطية كما هي معروفة في الغرب في مناخات وترب الدول النامية والحصول على ذات النتيجة، وإنما أصبح هناك اكتفاء بحد أدنى من هامش الحريات والتأكيد على ضرورة صندوق الانتخابات للوصول الى السلطة والباقي يعتمد على الممارسة وقدرة القوى المحلية على فرض وجودها رقما يستند الى قاعدة شعبية والتطور عبر الزمن. إن الانتخابات المقبلة لن تؤدي الى حلحلة مشاكل السودان بضربة واحدة حتى ولو جاءت مبرأة من كل عيب، لكنها تؤسس لشرعية لنظام الحكم الذي سينتج عنها ولفترة معينة والى أن يعود الناخبون الى صندوق الانتخابات مرة ثانية أما للتجديد للفائز أو ببروز قوة جديدة حزبا واحدا أو تحالفا من عدة أحزاب. والانتخابات نفسها لا توفر الشرعية، وإنما الشرعية في نهاية الأمر نوع من القبول الشعبي بالحاكمين عبر الاعتراف بنتائج الانتخابات، لذا تجد في الدول الغربية أن أول عمل يقوم به المهزوم بعد إعلان نتائج الانتخابات الاتصال بغريمه مهنئا له الانتصار. وأول خطوة في هذا الأتجاه أزالة أسباب الاحتقان وتطبيع الأجواء بما يسمح بإدارة انتخابات هادئة نوعا ما. ولهذا لا يمكن تبرير أحداث الأثنين إذ وضعت أول طوبة في بنيان العنف المتوقع وهو ما يتطلب معالجة سريعة. والمعالجة المذكورة يفترض أن تنطلق من قواسم مشتركة قابلة لأن يقبل بها كل طرف، وتركز على كيفية تقليل فرص العنف واعلاء قيمة صندوق الانتخابات عبر التواصل مع القواعد والحوار حول البرامج المطروحة، وأهم من هذا كله كيفية اتفاق تحالف جوبا على مرشح واحد. ومما يضاعف الصعوبة أن النظام الذي ستجرى على أساسه الانتخابات نظام رئاسي، الأمر الذي يمكن أن يعقد عملية الاتفاق على مرشح واحد أو الزامه ببرنامج فيما بعد. والى هذا ينبغي أن ينصرف جهد المعارضين، أكثر من الأنشغال بالدعوات الدونكشوتية حول تسليم المؤتمر الوطني للسلطة.