في حياة كل انسان قصة جديرة أن تروى عدا الانسان الابله الذي تمر به الحوادث والخطوب مر الكرام، فهو كما يقول سلامه موسى يعيش حياة كحياة البقول أي النباتات؟ وقد يكتب بسطاء الناس سيرة حياتهم لأسباب شتى، وقد شاهدت في ميدان البكاديلي بلندن مكتبات رخيصة بالمعنى الادبي للكلمة تبيع مذكرات الراقصات والممثلات حتى ولو كن من الدرجة الثانية، يتخصص في كتابتها صحافيون لا تطرف لهم عين يروجون لأدب الفراش بكل جراءة، هؤلاء الراقصات يتفاخرن بأن يقع رجال مرموقون في حبائلهن، وكلنا نذكر قصة استقالة الوزير البريطاني بروفيومو وكرستن كيلر. وعادة يكتب الرجال العظماء مذكراتهم للتعبير عن تجربة روحية عميقة كابدوها ك «الايام» لطه حسين أو مذكرات القديس أوغسطين أو بسبب رؤية فلسفية توصلوا إليها، كمذكرات جان جاك روسو أو ابي حامد الغزالي وهكذا دواليك. وقد تواترت لدينا في السودان مؤخراً مذكرات ساسة وفنانين، فطالعنا مذكرات خضر حمد وأمين التوم وأحمد سليمان والفنان حسن عطية على سبيل المثال، ولكن هذه المذكرات -إذا استثنينا مذكرات بابكر بدري الصادرة في الخمسينيات، تكاد تخلو من ذاتية المؤلف، فالساسة يذوبون ذوباناً في الحركة الوطنية بحيث يغلب على جهدهم التاريخ الجمعي لا الفردي إلا في احيان قليلة عندما تتخلل الكاتب قضية يود ان ينتصر لها بأي ثمن من الاثمان «انظر خطى مشيناها لأحمد سليمان». وبما ان المجال لا يتسع للاستفاضة، فلنعد إلى موضوعنا. كتب الاستاذ أحمد علي بقادي هذه المذكرات اوائل سبعينيات القرن الماضي واسماها «صحافة بالسياسة» وأثارت ضجة في حينها، ومع ذلك نقرؤها اليوم وكأنها رغيفة طازجة خرجت لتوها من الفرن.. والسبب الرئيس لجدتها هو تميزها بالجرأة بل وبالصراحة الجارحة احياناً ولو كانت على حساب صاحبها. فهو لم يتوان عن انتقاد الحزب الذي ينتمي إليه امعاناً في استقلالية الرأي ليخوض امتحانات عسيرة تصدى لها بثقة ولو كان على خطأ وكان فارساً في حرية الرأي، مما يعد ضربة البداية لكثير من الصحافيين الذين احجموا عن الادلاء بمخزون صدورهم الذي ربما يعيننا على اعادة النظر في تاريخنا الرسمي المعاصر. والمؤلف حسب روايته، تلقى دروسه في السودان ومصر وكان دائم الاختلاف بين المدرسة والسجن منذ عام 1950وحتى عام 1961 قضى في سجن مصر وحده «4» أعوام ونصف العام، وبالطبع فإن ذلك كان بسبب نشاطه السياسي المحظور وانتمائه لليسار وعندما خرج من السجن عاد للسودان ليعمل ويجمع ما يكفي من المال لاستئناف دراسته الجامعية في مصر، ولكنه عدل عن ذلك وخاض غمار العمل الصحفي حتى انتهى به الأمر إلى الكارثة التي تعيد إلى الاذهان المآسي الاغريقية الخالدة حيث لم يتزحزح عن مواقفه قيد انملة وسبح ضد التيار حتى «غرق وشالو العرق» على حد قول المثل الشعبي وان اطل علينا مؤخراً واستأنف نشاطه من جديد. عمل أولاً بصحيفة «السوداني» لصاحبها الاتحادي محمد الحسن عبد الله يس، ويذكر بالخير استاذه الأول السيد زين العابدين ابو حاج الذي علمه اصول الصنعة وحثه على الاعتدال وحذره من مغبة التطرف في الرأي. وتوريط الصحيفة امام القضاء بتهمة اثارة الكراهية ضد الحكم الاستعماري. وتمكن من الذهاب إلى مطبعة الصحيفة التي كان يديرها الاقتصادي عبد الله ميرغني، ولفت نظره «رأيت العمال في ثياب العمل الملطخة بالحبر وهم ينكبون على العمل، اجسادهم نحيفة وعروقهم نافره والتعب والارهاق على وجوههم.. ورغم انني كنت قد قرأت كثيراً عن العمال واستغلال صاحب العمل لهم إلا أنني لم أر تلك الصورة في تجسيد حي إلاَّ في ذلك اليوم وعاد إلى القاهرة حيث رشحته خبرته الصحفية للعمل في مطابع التنظيم السري، وكلفه ذلك سنوات في السجن وفيه استزاد من المعرفة وليعد نفسه للعمل في مجال الكتابة. وعاد للخرطوم ليحترف المهنة النكدة حيث دخل إلى مكاتب جريدة «الميدان» جندياً مستعداً للتضحية كما يقول ووصف العمل فيها بأنه قطعة من جهنم بسبب امكانياتها الشحيحة. وكانت تلك تجربة مهمة في حياته يتوجب علينا الوقوف عندها وسبر اغوارها في الحلقة القادمة.