على ظهر حمارته الهزيلة يقطع دروب وطرقات الأحياء، بصوته الممطوط وطريقته المميزة منادياً: الباصل باآآصل..التوم .. التوووم يجوب الأحياء والأزقة متربعاً على سرجٍ قديم، وقد تدلت من جانبي الحمار قفتا البصل الكبيرتان وأكياس الخيش (المخالي) المليئة بالثوم أو بصل (المكادة) .. في طفولتنا كان لأبي صديقاً حميماً يسمى (عبد الله المكادي) فكنت أحسب أن أهله من باعة التوم ! كما ظللت حينا من الدهر أتخيل أن أصل كلمة المكادة آتية من (الكيِد)، وذلك لأن رأس التوم يشبه كف اليد المقبوضة الأصابع وهي حركة كنا نرمز بها في الطفولة لمعنى ( الليلة استنى الراجيك) كناية عن التهديد بالشكوى للكبار و(القوالة) بما فعلت من الخطأ، فنقول مع حركة الأصابع المجتمعة وهي من صيغ التهديد : الليلة يا فلان شكوى .. ومكوه !! ما (علينا) .. نرجع (لبياع) البصل الذي يخترق الطرقات على ظهر حماره حاملاً في يده عصاة رفيعة قصيرة يضرب بها عنق الحمار ضربات خفيفة ليحثه على سرعة المسير مردداً بين الحين والآخر: (عرت .. عرت .. آآلخراب اليخربك !!) وأثناء سيره قد يُفتح أحد أبواب البيوت لينطلق منه صبي صغير كالقذيفة جارياً نحو الحمار وهو يصيح: يا بتاع البصل هوي.. أمي قالت ليك أقيف. فيلتفت بياع البصل للصبي منتهراً: أمك بتدور بي شنو آآجنا؟ فيرد الصغير في لماضة: ما دايرين نشتري منك بصل .. يعني قايلنا دايرين نهظر معاك ؟ فيجيب بياع البصل بنفاذ صبر: سمح أرح إتسرّع .. جيب قروشك وتعال. بيّاع البصل لا يحب مبايعة الصغار و(اللماضة) في المبايعة، ويفضل عليها بيع (النساوين) فبه يصطاد عصفورين بحجر ويجمع بين مصلحتين .. بيع وفرجة، هذا إذا كانت الزبونة من ذوات السماحة وبتستاهل .. تناديه إحدى ربات البيوت من وراء الباب شبه الموارب: هوي يا سيد البصل .. تعال جاي !! وقد تصاحب مناداتها بمد يدها المكشوفة !! وذاك كل المنى، فيسرع إليها حاثاً حماره بالعصا، و(كم لكزه) من رجليه لزوم زيادة السرعة، وعندما يصلها يشملها بنظراته المتفحصة يساعده في ذلك جلوسه على ظهر الحمار العالي مما يتيح له شمولية النظرة ال (من وراء الباب) ويقول متودداً : نعم يا ست البنات أو يا ست الكل أو يا ست الناس (ده حسب ما يوحي به سِن المنادية) فيمكن أن يكون رده في مساخة: أيوه يا حاجة .. بتدوري ليك بصل ولا توم ؟ طبعا ده لو كانت من نادته عجوز تتبع للقواعد من النساء فيكتفي من الغنيمة بالبيعة، أما إن كانت شابة أو فيها شيء من (رقشة) فالبيع بالهوادة والزيادة أكتر من المعبار !! - في حلة من حلال الجعليين في الجزيرة حيث لا مكان للخمج وكلام اللولوة، قام (محمد) ابن كبير الحلة بمنع الباعة المتجولين من الدخول إلى حيهم، لأن كل طلبات النساء يحضرها الرجال معهم من المدينة، وبالتالي فلا داعي (للتمرقع والتلطع) الذي يمارسه الباعة المتجولون مع ربات البيوت .. وعندما عاد ذات يوم للحي صادف أحد باعة البصل يجوب طرقات الحي على ظهر حماره، بعد أن سبق وحذره من مغبة الدخول لحِمى الحي، ويبدو أن البايع لم يأخذ التهديد على محمل الجد فعاود المجئ ليجد (السم القدر عشاه)، فما أن لمحه (محمد) حتى اندفع إليه و(قبقبو) بكلتا يديه وحمله عن ظهر الحمار وضرب به الأرض ضربة موجعة طقطقت لها جميع عظام ظهره، ثم علاه خانقاً ، وهنا صاح الأعرابي محتجاً على قطع رزقه بلهجة أهالي (الضهرة) المحببة: (هااا زول شن سويت لك؟ قول قاصدها معايا ساكت بس !!)