... لعل الحوار مع اليسار ليس ترفاً.. والحوار كما نقول دائماً جزء أصيل من مكونات هذا السودان.. واليسار أسهم تاريخياً في تشكيل حركة السودان، كما أن له نخباً معتبرة على مستوى العالم العربي والاسلامي والسوداني.. ولذلك لابد ان يتصل الحوار مع اليسار. كما أننا لا نريد أو نهدف من هذه الحوارات، أن نثبت أن اليسار كان شاذاً أو منحرفاً في سلوكه الفكري والسياسي عبر مسيرته وإسهاماته.. بل نريد أن تكون هذه المقالات وقد سبقها العديد محاولة جادة لمراجعات موضوعية وحقيقية مع اليسار.. خصوصاً وأن المراجعات الآن أصبحت تلتصق وتتصل مع مسارات الدنيا كلها.. فهنالك مراجعات وسط الإسلاميين.. وهنالك مراجعات وسط الرأسماليين.. وهناك مراجعات تمت وتتم حتى في منابع الشيوعية والماركسية العالمية.. وقد رأينا المراجعات التي تمت في حزب العمال التي قادها «توني بلير» و«غوردون براون» الحالي.. التي أدت الى ما سُمّي بالطريق الثالث.. فهل هناك طريق ثالث في السياسة السودانية؟!! ومهما يكن فإن ما يرد في هذه المقالات لا يدعي العصمة وقد لا يكون كله صواباً.. بل يمكن ان نعتبره الخطأ الذي يحتمل الصواب.. ولكن أيضاً فإن الخطأ الذي يحتمل الصواب هو مربع من مربعات الحوار. -------------------------------------------------------------------------------- وابتداء.. تدعي هذه المقالة ان إسهامات اليسار في السياسة السودانية كانت في عمومياتها غارقة في السلبية.. ذلك أن اليسار وظف شعارات الطبقة العاملة والدفاع عن الكادحين أو «البروليتاريا» من أجل الهموم الذاتية.. ومن أجل المطالبة الذاتية.. ومن أجل الوظيفة السياسية.. كما أن اليسار السوداني كان «الرائد» بلا منازع في دخول الأندية السرية للإنقلابات العسكرية.. وأنه ما اختلطت «السرية» ب «الآيديولوجية» إلا وكانت النتيجة الفساد العريض.. وتدعي هذه المقالة أيضاً أن الرئيس البشير ومن معه من قيادات المؤتمر الوطني يمثلون «الوسطية» في تيارات العمل السياسي في ظروف الانتقال التي نعيشها، كما أن وجود الرئىس البشير ومن معه أصبح محورياً ولازماً في هذه الظروف الانتقالية وفي ظل اتفاقية السلام. ومهما كثر الحديث عن الديمقراطية والتحول الديمقراطي فإنه لا يمكن الاستغناء عن الجيش أو إهمال دوره.. لأن النخب المتصارعة حول السلطة في هذه الفترة.. نخبٌ ذات خلفية عسكرية.. وحتى لا نذهب بعيداً فإن النائب الأول للرئىس من المؤسسة العسكرية.. وممن مثلوا التجمع في الحكومة الانتقالية الكثير من العسكريين مثل عبدالرحمن سعيد وغيره.. كما ان الذين يعارضون من التجمع أيضاً كانوا من العسكريين مثل اللواء عبدالعزيز خالد وغيره.. وأن غالب الذين يحاولون أن يوطدوا لأنفسهم أقداماً في المسيرة السياسية أول ما فعلوا أن ذهبوا وعسكروا أنفسهم مثل مني أركو مناوي كبير مساعدي الرئىس.. أو أصدقائنا في الحركة الشعبية الذين يحملون رتباً عسكرية في جيش الحركة الشعبية كياسر عرمان وعبدالعزيز الحلو وباقان أموم ودينق ألور.. وكذلك المجموعات التي تتصارع غرباً وشرقاً.. مجموعة الغرب ومجموعة الشرق. وسطية البشير إذاً، الرئيس البشير يمثل «الوسطية» الحقيقية بين الحرفية العسكرية والحرفية السياسية.. كما يمثل الوسطية بين الهواة من المتعسكرين والهواة من السياسيين.. كما أنه أيضاً يمثل الوسطية بين مزاج الأصوليين المندفعين والآخرين من المنبطحين والمستسلمين. كما أنه يمثل الثقافة السودانية بكل أبعادها، وكما وصفناه في العديد من المقالات أنه «ود بلد».. كما أنه لم يصدم الثقافة السودانية أبداً. ولتقريب الإفهام لا بأس أن نأخذ أمثلة من الثقافة السياسية العالمية.. فنحن نعلم أن اخواننا المصريين احتفلوا قبل أيام -في إطار المجلس الأعلى للثقافة- بمرور «09» عاماً على ميلاد الزعيم العربي جمال عبدالناصر الذي ولد في «51 يناير 8191».. وعبدالناصر الذي يحتفل القوميون العرب واليسار في كل العالم العربي ويبكون لموته هو أحد خريجي المدرسة العسكرية.. بل وأحد خريجي المدرسة الشمولية.. ولكن الرئىس البشير «وسط» بين مدرسة عبدالناصر الشمولية وبين مدارس الديمقراطية الفوضوية.. كما أن مصر ما عادت اليوم مصر عبدالناصر، ولا تريد ان تواجه الأمور كما واجهها عبدالناصر ولا تريد أن تسميها كما سماها عبدالناصر. وكذلك.. يحتفل الماركسيون الروس على امتداد العالم على مرور أربعة وثمانين عاماً على وفاة «لينين».. المولود في «12/4/0781م» والمتوفى في العام 4291م. ظلال بين مشروعين ونحن نعلم ان المشروع السياسي الذي تزعمه «لينين» انطوى في سبعين عاماً أو أقل.. ونعلم ان هناك ظلالاً تجمع بين المشروعين اليهودي والشيوعي.. حيث ان ابطال الشيوعية الثلاثة «لينين- وماركس- وإنجلز» كلهم كانوا من اليهود.. وقد قرأنا لكل المؤرخين والمفكرين وهم يعضدون فكرة ان اليهودية كعقيدة تهيمن على كل المشاريع السياسية بل تصنعها وتتبناها. وما يهم فإن «لينين» الذي ولد العام «0781م» أصبح شيوعياً العام «7871م» وهو ابن السابعة عشر ليس لأسباب فكرية، ولكن فقط لأن القيصر الروسي قتل أخاه.. ثم أصبح لاجئاً سياسياً بين سيبيريا وسويسرا وألمانيا.. وفي العام «5091م» وفي لحظة الانقسام بين «المونشفيك» و«البولشفيك» أصبح «لينين» القائد الذي تجتمع عليه الآراء. ومن الطرائف.. إذا كان انقسام المونشفيك والبولشفيك ظاهرة تتصل بالشيوعيين الروس والظروف الاجتماعية في روسيا.. فإن الشيوعية السودانية وبعد أربعين عاماً من انقسام المونشفيك والبولشفيك في روسيا انقسم الحزب الشيوعي السوداني على ذات الغرار «مونشفيك» و«بولشفيك» ما بين مجموعة علي عبدالرازق ومجموعة عبدالخالق محجوب. «مناحة» وأطلال وومهما يكن، فعلى ماذا يدل احتفال الشيوعيين على مرور «48» عاماً على وفاة لينين؟ .. لعله مجرد حنين للماضي وبكاء على الأطلال ومحاولة لإقامة «مناحة» على الاتحاد السوفيتي دون النظر الى مستقبل الصراع.. علماً بأن روسياالجديدة ذات الطريق الثالث أخذت تستعيد قوتها على الصعيد الدولي دون الراية الشيوعية ودون الراية الماركسية.. ودون الشمولية.. ودون أن تطحن الجمهوريات المحيطة بها التي أصبحت جمهوريات مستقلة. تنكب الطريق!! وهذا يقودنا الى نقطة تاريخية.. فبمناسبة احتفال الشيوعيين على مرور «48» عاماً على وفاة «لينين».. نتذكر ان الشيوعيين السودانيين كذلك احتفلوا في العام 0791م بالذكرى المئوية لميلاد «لينين». ومثّل ذلك صدمة هائلة للثقافة السودانية ولأهل السودان خصوصاً وأن الاحتفال بمئوية «لينين» توافقت مع احتفالات المولد النبوي الشريف، وحاول الشيوعيون في تلك الأيام من العام 0791م ان يغطوا على احتفالات المولد النبوي بالاحتفال بميلاد «لينين».. وكأن «لينين» هو نبي السودان أو هو منقذ ومجدد السودان.. أو يمثل الثقافة السودانية.. والذين تصدوا لذلك الاحتفال المهين للثقافة السودانية ورفضوه سجنوا. وعرف ذلك بمظاهرات المولد في بدايات مايو الحمراء.. ولكن ألا يدل ذلك على المراهقة السياسية للحزب الشيوعي بمثل ما يدل على الانفصام النكد بين ثقافة النخبة الشيوعية والثقافة السودانية.. وإذا كان السودانيون مع كذلك احتملوا الشيوعية.. واحتملوا الحزب الشيوعي الى أن جاء بثالثة الأثافي في ضرب الجزيرة أبا، ثم انقلاب يوليو «1791» فتمت تصفيتهم.. فهل ثمة مقارنة ما بين السلوك الشيوعي وسلوك «ود البلد» الرئيس البشير- ولعل هذه هي «الوسطية» التي نتحدث عنها.. ذلك أن «البشير» جاء مجدداً للمولد النبوي الشريف.. وجاء مجدداً للثقافة السودانية.. وجاء محتفياً بالقرآن الكريم ورافعاً رايته.. وجاء محتفياً بالطرق الصوفية.. وجاء محتفياً بوسطية الوسط السوداني.. وسط «عمارة دنقس» و«عبدالله جماع» و«غلام الله بن عايد» و«احمد بن ادريس».. والميرغني الكبير.. واسماعيل الولي.. و«الطيب البشير» و«محمد أحمد المهدي» و«الشيخ خوجلي أبوالجاز» و«حمد ود أم مريوم» و«إدريس أرباب العقائد» وطبقات ود ضيف الله.. وغيرهم من مؤسسي علم الاجتماع السوداني.. فلذلك عندما نقول إن حركة اليسار كانت شاذة ومتنكبة للطريق فإننا لا نخبط خبط عشواء.. ولا نجتهد اجتهادات ليست في محلها. ومع مرور «48 عاماً» على ميلاد «لينين».. لماذا لم يحتفل شيوعيو السودان الذين احتفلوا في العام «0791م» بعيد ميلاد لينين المئوي.. لماذا لا يحتفلون هذا العام مع إخوانهم في روسيا بالذكرى الرابعة والثمانين على وفاة زعيمهم، وفي ظروف الحرية.. نقول لأن شيوعيي «0791م» الذين أسكرتهم السلطة والثورة غير شيوعيي «8002م».. وظروف «0791م» غير ظروف فواتح الألفية الثالثة. والآن، فإن كثيراً من شيوعيي فواتح القرن أصبحوا متصوفة وتشربوا بالثقافة السودانية ويذهبون لأزرق طيبة.. حتى ولو بدوافع توظيف الطريقة القادرية و«التكية» و«التقية» سياسياً.. بينما كان شيوعيو «0791م» يروجون للهوس الإلحادي.. والهوس الإباحي.. والهوس الفني. هجر الشيوعية!! إذاً، ماذا بقيت من الشيوعية في الذاكرة السودانية والثقافة السودانية غير إنقلاب «يوليو 1791م» ومجزرة بيت الضيافة.. وهروب المرحوم عبدالخالق محجوب ثم إعدامه المؤسف.. وذكريات العمل النقابي وتحرير المرأة.. والهجوم على رأس المال.. وتراشقات المرحومين صلاح أحمد إبراهيم وعمر مصطفى المكي.. وانتحار «شيبون» وتصوف البقية وجنون البعض.. والجلسات الحمراء.. لعل هذه هي ذكريات اليسار السوداني.. وشعارات لن يحكمنا البنك الدولي.. الذي بات بعضهم الآن مجرد موظفين فيه.. واستهوت البعض الآخر «لندن» مقر الرأسمالية.. فأناخوا فيها، أو أصبحوا يشدون اليها الركائب بسبب أو دون سبب.. وتزوجوا وتناسلوا وحملوا الجوازات البريطانية والأمريكية.. ولكنهم مع ذلك ومع بقائهم في لندن فقد تجنبوا تماماً أي ارتباط عضوي بالحزب الشيوعي البريطاني. وركزوا على الاتصال بالمخابرات ودوائر الأمن الاجتماعي.. ودوائر حزبي المحافظين والعمال.. فقط كان الذي حظروه على أنفسهم التواصل مع الحزب الشيوعي البريطاني الذي ظهر انهم لم يعرفوه ولا يريدون ان يعرفوه فلماذا..؟ نقول لأنه كانت تستهويهم فكرة «القوة».. ويستهويهم البرلمان البريطاني.. ويستهويهم الاسترليني. ولهذه الاسباب هجر الناس الشيوعية.. ولهذه الأسباب أحب الناس الرئيس البشير.. لأن السودان بقيادة البشير وما بعد الترابي، بدأ يدخل مرحلة تاريخية جديدة.. عنوانها «الندية» والحوار الثقافي.. ومن قبل طرق الرئىس البشير أبواب إيران ليس فقط من أجلها ولكن من أجل مصالح السودان.. ومن أجل فتح أبواب السودان المحاصر أمام الثقافة الايرانية بكل أبعادها.. وهكذا كان التواصل مع «الصين» و«ماليزيا» و«الهند» و«جنوب افريقيا».. وها هو الرئىس البشير يطرق أبواب «تركيا» بقوة. توازن المصالح!! ولماذا يطرق أبواب تركيا.. ليس فقط حباً فيها ولكن لإعطاء التوازن لمصالح السودان ولفتح السوق السوداني أمام السوق التركي.. وفتح أبواب السودان أمام التقانة التركية.. ومن قبل زار الرئىس البشير أوروبا من خلال زيارته للفاتيكان ليس من أجل «الفاتيكان» ولكن من أجل الحوار «الإسلامي- المسيحي» ومن أجل فتح أبواب المستقبل أمام السودانيين.. ومن أجل الإمساك بقرون «الوعل» الأمريكي حتى لا يخرب السودان كما فعل بالعراق وأفغانستان. وبالأمس القريب كان الرئيس نجماً في الصين وفتح طرق الحوار مع الصين ودول الخليج وكلها لمصالح السودان البترولية والتجارية والثقافية والعلمية والأمنية.. وغداً نتمنى على الرئىس البشير ان يطرق أبواب روسيا والجمهوريات المستقلة بقوة أكبر. صحافة صفراء!! ولكن مع ذلك نجد أكوام الصحافة الصفراء التي تسعى الى الإثارة والتقليل من الإنجاز وعقلية «خالف تُذكر» وتدبيج المقالات حتى يصبح البعض نجوماً في الكتاب الأبيض الأوروبي والأمريكي.. ولكن مع كل ذلك فإن الرئيس البشير ومن معه لم يكن لهم إلا أن ينطقوا باسم السودان وللسودان. مستمسكون بالحكمة الصينية «احتفظ بقدرتك حتى تتكامل قوتك».. وهذه شهادة سلوكهم وأفكارهم وطرقهم حتى لو كانت خاطئة، فليس ثمة معصوم غير النبي الخاتم صلوات الله عليه وسلامه. والفائدة.. انهم سيظلون يمثلون الوسطية وأنهم يمثلون تيار المسيرة التاريخية للسودان.. وأنهم الآن يفتحون أبواب التاريخ لأبناء السودان.. وغداً سيفاجيء السودان العالم بشرعية الانتخابات.. وسيفاجئهم بما يحدث في الشمالية.. وبما يحدث في الوسط.. وبما يحدث في الجنوب والشرق.. وبما يحدث في مشروع تعلية خزان الروصيرص الذي سيعطي السودان مليوني فدان من الأراضي الزراعية والمروية.. وسيفاجيء السودان العالم عندما تعم الكهرباء وتصبح الصناعات التكميلية جزءاً من حركة المشاريع الزراعية. ليصبح السودان سلة غذاء العالمين العربي والافريقي، وما ذلك على الله بعزيز.