العربة تتهادى وسط ازدحام الشارع الامدرماني وصوت جهاز تسجيلها يتدفق مع نداوة الصوت حزناً كأنه يسبق أحداثاً عاصفة ويطلق لحن الوداع. ----------------------------------------------------------------------- ورحت اتأمل.. كأنها قارئة فنجان، وكف وعرافة.. تسبق القدر..والقدر لا هروب منه وشريط يمتد امامي.. علاقة مايزيد من ربع القرن مع الراحل عجاج.. وفجأة اتذكر.. واستعيد وجودي للحظات.. هذا الاغنية من داخل سيارة اخي وصديقي الارباب عادل أحمد ادريس الذي اصطحبني معه.. لنذهب سوياً لاداء واجب العزاء لنهى في فقدها لوالدها التي هي الاكثر ارتباطاً به، روحياً وأبوياً وفنياً. تخيلت انها ترثي والدها المبدع قبل رحيله واعتقد انها لم تختر هذا النص مصادفة.. ولكنه احساس الفنان فيها والابوة العميقة.. حتى هو في هذا المقطع الذي استمعت إليه يخترق نفسه رثاء.. ابداع حد ذلك الحزن الذي تدفق مبكياً كل من استمع إليه. فقد كانت نهى تردد هذا المقطع باصرار في الاغنية، ولكن من دون تعمد. لم أر نهى في حياتي إلاَّ من خلال صورها التي تنشرها الصحف.. وكذلك شقيقتها نانسي ولم اسمعهما تغنيان.. بالرغم من عدم تلبيتي لدعوتين قدمهما لي صديقي الراحل بدر الدين عجاج لحفل عطرتا به ساحة النادي العائلي والذي قدم لي الدعوة للحضور من خلال صديقي صلاح محمد يس مسؤول النادي. وتوقفت السيارة.. وترجلنا.. صديقي وأخي الارباب عادل ادريس إلى منزل الاسرة لتقديم العزاء.. هذه أول مرة ارى نهى الفنانة التي جاءتنا مثل النسمة الحزينة ترتدي السواد حزناً على والدها. كانت تتحدث بهدوء وبحزن متدفق احدث في دواخلي انهياراً.. ولولا وجود الارباب عادل.. ذلك الشاب الذي يتدفق انسانية ووفاءً نادراً لما استطعت التماسك خاصة عندما قلت لها ان علاقتي مع والدها تتجاوز ربع قرن من الزمان.. وهو ايضاً صديق لشقيقي الفاتح وسألتني.. متى رأيته آخر مرة؟.. تلعثمت وفقدت النطق لبرهة.. وفشلت ان احدد آخر مرة بالتحديد.. وتماسكت بفضل اخي عادل وقلت لها قبل اشهر.. وقلت في نفسي بعد ان تماسكت قليلاً.. قبل ان يسافر ويترك جرحه نياً. نهى.. كانت متماسكة في تلك الليلة التي ذهبنا إليها.. اي بعد «5» أيام من سفره.. الذي ترك جرحاً نياً.. لم يبرأ حتى الآن. في هذا المقطع المعبر.. كانت نهى تخاطب والدها بألا يسافر.. ويترك جرحاً نياً.. لم يندمل بعد.. والجرح الني رمز لاشياء كثيرة ومعنى لاشياء عميقة حفرت في قلب نهى قبل اي انسان آخر. كانت نهي في تلك الامسية.. وهي ترتدي الملابس السوداء.. احساساً بفجيعتها الكبيرة في فقد ابيها.. كانت لوحة تشبه تماماً الجمال الفني الحزين. نهى.. تمتلك ناصية الوعي المتقدم.. وناصية الكلمة المعبرة والمناسبة والدقة والتي تكاد تكون موزونة بميزان الذهب. نهى مسكونة بهدوء ووقار شديدين خطفا بصري منذ الوهلة الأولى.. تحسن استقبال الضيوف رغم الحزن العميق الذي يلفها.. تتحدث بتركيز شديد. لم اكن اتوقع ان تكون نهى صغيرة السن وهي تمتلك كل امكانيات الفنانة الناجحة.. من صوت جميل رائع.. وفهم متقدم لرسالتها وحضور مدهش. ومحبة عميقة لوالدها.. ولفنها انها فنانة وانسانة من نسيج خاص تدخل قلب من يعرفها دون استئذان.. تتحدث بصوت هامس لكنه مسموع وملئ بالثقة. نهى كانت حزناً يمشى على قدمين.. كان الفقد جللاً.. واكبر من سنوات عمرها ولا يحتمله جسدها النحيل وسنوات عمرها الغض