كل مدينة في العالم.. هي ليست ذات المدينة.. فالمدينة الواحدة..في الزمن الواحد والمحدد.. ليست هي ذات المدينة. وذلك بالنظر اليها من موقع ما.. يمثل منظوراً ما: فكلما تعددت المناظير التي ترصدها كلما اختلفت صورة هذه المدينة عن الصورة المغايرة التي صورتها لها نظرة اخرى مختلفة ومغايرة . لذا فان ام درمان علي المك، هي ليست ام درمان خليل فرح في أغنية «ما هو عارف» كما أنها ليست هي ام درمان القاص هاشم محجوب في قصته الجميلة «حسن ود ستونة ملكاً» والتي نشرت ب«الرأي العام» قبل شهور قلائل. وقد ركب القاص هاشم محجوب عنوان قصته من احدى اغنيات الحقيبة التي تسمى مقابر ام درمان.. ولعلها مقابر البكري باسم «ملوك ام در» واذا نظرت في كل اعمال الفنانين «قصص واغاني» فانك تجد وجوهاً متعددة ومختلفة لمدينة ام درمان وللشقيقين كمال الجزولي وحسن الجزولي عملان الاول قصيدة لكمال الجزولي بعنوان «ام درمان في قطار الثامنة» ولحسن الجزولي قصة قصيرة بعنوان «ام درمان في بص الثامنة» وكل من العملين يصور ام درمان بصورة مختلفة رغم ان الكاتبين ينتميان لرؤية فكرية ايديولوجية واحدة.. فالاختلاف بين صورة ام درمان هنا وام درمان هناك، هو ذاك التفرد الابداعي الشخصي الذي يجعل اضافة هذه الرؤية للصورة تختلف عن تلك الاضافة. وهذا ما يجعل سر النصوص جمالياً يتمايز ويختلف باختلاف القدرات الذاتية للفنانين التي تحددها رؤاهم الذاتية لموضوعات فنهم. وهذا بالطبع ما يجعل مدينة ام درمان مدينة متعددة الوجوه والأقنعة داخل كل فترة تاريخية ما. ولهذا من الصحيح القول إن هذه الوجوه وهذه الأقنعة المختلفة تشترك كلها في تأكيد عدد من التشابهات والتطابقات حتى تصبح مميزاً مشتركاً لفترة تاريخية ما وطبعها بالطابع العام والمميز لهذه الفترة، ولهذه من الصحيح أيضاً (أن قوة الأشياء) هي هذا الحوار الذي ينشأ بين الخاص والعام.. بين الفردي والجماعي.. وهذا ما أعطى أغنية الحقيبة طابعها الخاص والامدرماني.. وهو أيضاً ما أعطى الأغنية الحديثة التي جاءت من ام درمان بعد ذاك طابعها الامدرماني المميز بتميز خصوصية هذه النشأة. وداخل هذا السياق.. نجد انه من السهل أن نعتبر أن أغنية الحقيبة الأمدرمانية هي البدايات الحقيقية التي انطلقت لتؤسس هذا الغناء الذي يعبر عن الوجه الجديد لهذه المدينةالجديدة التي نضجت ملامحها الحداثية في فترة ما بعد الاستقلال. ان مجموعة علي المك القصصية «مدينة من تراب» تصور مضمون كفاح المدينة الاجتماعي والسياسي وتعبر في ذات الوقت عن سعيها الثوري ضد الأبنية الإجتماعية والسياسية الكلاسيكية القديمة.. والتي هي تطوير لام درمان كمدينة من إبداع الطبقة الوسطى كما صورها علي المك وصلاح احمد ابراهيم في كتابيهما المشترك «البرجوازية الصغيرة». ولعل ما دفع علي المك ان ينحو في كتابه هذا «مدينة من تراب» هذا المنحى الشعري هو اندفاعه مع تيارات الكتابة المحدثة تلك التي خلخلت ابنية السرد القصصي القديم والتي أخذت تبشر بهذا الشكل الشعري الجديد الذي طبع الحياة والكتابة الادبية الامدرمانية طوال سبعينيات القرن الماضي. مما شكل خطاً فاصلاً وفارقاً بين ام درمان الحقبات الجديدة وتلك الوجوه القديمة لا مدرمان وهي ذات الفروق بين اغنيات حسن عطية «يا ماري عند الاصيل وحدك بشاطي النيل» واغنيات الصبي المغني عمر احمد «كان بدري عليك» المأخوذ مطلعها من احدى اغنيات المطرب السينمائي المصري محمد فوزي في فيلم «فاطمة ومريكا وراشيل» وهو غناء جديد بلغ ذروة الحداثة الامدرمانية عند الشاعر الغنائي الطاهر ابراهيم ورفيقه ابراهيم عوض «والله جنني وغيرَّ حالي».. كما جاءت اغنية «الفراش الحائر» لعثمان حسين فزلزلت التأليف «الميولودي» للغناء السوداني. ولكن منتصف الستينيات جاء بثورة غنائية مضادة لتلك الاعتبارات التي جعلت من اغنية ام درمان هي معيار للأغنية القومية.. فطالبت الأغنية الكردفانية التي نشرها عبدالقادر سالم ورفاقه وقتذاك ان تعبر عن هذا التنوع وهذا التعدد الثقافي بناء على هذا المنظور.. وان الذي جعل ام درمان هي مدينة التمازج الإبداعي والثقافي على المستويين السياسي والإجتماعي حينما كانت مركزاً في المهدية لكافة القبائل.. لم يعد هو ذات الأمر الآن.. إذ أن وسائط الاتصال الحديثة «قربت المسافات» وجعلت مثل هذا التمازج ممكناً وواقعياً جداً. وقبل هذا.. وفي فترة الاربعينيات وما قبلها بقليل كان الهامش الثقافي يبدع فناً افريقياً جميلاً.. وهو تلك الإيقاعات الأفريقية الحارة التي ألفتها وركبتها موسيقياً تومات كوستي..وهي الموسيقى التي اسندت لهاتين التوأمتين فعرفت بالتم تم.. وغنى بها زنقار وبمثلما قام الهامش البعيد بتقديم هذه الاضافات فان هناك بؤراً تعبر عن هذا الهامش داخل المدينة وهي ما جاءت بهذا الغناء الخاص والسري الذي يعبر عن «التابو» عن هذه الثقافة المسكوت عنها. والتي سمى بها هذا الفن المجهول المؤلف في الغناء والتلحين والشعر.. مما جعلها تعرف بأغاني «البنات» ولكن فناننا الكبير عبدالكريم الكابلي استطاع ان يعطيها اسماً اكثر دلالة وأكثر عمقاً عندما اطلق على هذه الاغاني «اغاني كواليس المدينة» وهي الاغاني التي تأتي من الشوارع الخلفية للمدينة. وهي أغاني الطبقة العاملة المكونة من أصحاب المهن الهامشية وأصحاب الحرف وصغار العمال..وقد كانت تقوم بدورها في التعبير عن هذه الفئات الإجتماعية المهمشة كأحسن تعبير. وكان برنامج ما يطلبه المستمعون الذي كانت تقدمه الاذاعة السودانية ابان الخمسينيات والستينيات يعبر أحسن تعبير عن هذه التكوينات الطبقية الاجتماعية، بل اصبح كبار المطربين في ذاك الوقت يعبرون عن هذا التمايز الإجتماعي والثقافي والسياسي فكان عثمان حسين رمزاً للمثقف الاكاديمي وحسن عطية للمثقف البرجوازي وابراهيم عوض يعبر عن صغار الموظفين وعن الشباب واحمد المصطفى يعبر عن الطبقة الاجتماعية الجديدة التي حلت محل الانظمة القديمة كسلطة ادارية وسياسية. وخلال هذا كله كانت ملامح ام درمانالجديدة تتكون ومن ثم تفك ارتباطها بالثقافة العربية الكلاسيكية وتتخلص من سيطرة المراكز السياسية العربية والافرنجية.. واخذت تتكون في بطء اوجه جديدة للمدينة عندما أخذت تتساقط اقنعتها وتبحث عن وجهها السوداني الحقيقي والجديد. وفي مرة قادمة نقرأ مع الدكتور عبدالله حمدنا الله افكاره حول هذه المدينة الجميلة المتجددة الجمال والحسن.