موقف قديم، ظَنّ البعض أنّ الأحداث قد تجاوزته، نفضت الغبار عنه حركة العدل والمساواة، عندما أعْلنت في نهاية الأسبوع الماضي تعليق الحوار مع الحكومة في منبر الدوحة للسلام، ورفضها لتوقيع اتفاق إطاري بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة التي يتزعمها التيجاني السيسي بعد تشكلها اخيراً في الدوحة من عدة فصائل، وكان رفض حركة العدالة مصحوباً بتهديد: ستغادر الحركة منبر الدوحة إذا وقّعت الحكومة اتفاقاً مع أيِّ فصيلٍ آخر، فحركة العدل والمساواة كَمَا سَبَقَ للوساطة الإقرار بذلك هي القوة الوحيدة الموجودة على الأرض في دارفور. موقفٌ قديمٌ آخر أعادت الحركة طرحه مطلع الأسبوع، هو تأجيل الانتخابات، فقبل أشهرٍ قليلة وردت أنباء عن طلب الحركة ضمن ورقة دفعت بها للترابي الأمين العام للمؤتمر الشعبي أثناء تواجده في العاصمة القطرية تأجيل الانتخابات ريثما يتم الوصول لسلام في دارفور، وعاد أحمد حسين الناطق باسم الحركة قبل يومين ليشترط تأجيل الانتخابات قبل الدخول في مفاوضات مع الحكومة. احتكار التفاوض، رغبة سبق لحركة العدل إعلانها في أوقات كثيرة، فمنذ أبوجا، أخذ د. خليل إبراهيم يَصف الحركات الأخرى بأنّها فصائل لا وجود لها على الأرض، وينحصر وجودها في وسائل الإعلام وفنادق دول الجوار، لكنّ الزخم الإعلامي الكبير الذي تلا توقيع إتفاق إطاري بين الحكومة والحركة في العاصمة التشادية انجمينا، ثم إردافه بالتوقيع على اتفاقٍ آخر في العاصمة القطرية الدوحة بحضور دبلوماسي وسياسي كثيف وسط عناق بين البشير وخليل أوحى لكثيرين بأن ثمة شيئاً جديداً قد طرأ على علاقة الحركة مع الحكومة، وأن صفحة بأكملها قد طُويت وفتحت صفحة أخرى بحسابات جديدة. ما طرأ على علاقة حركة العدل والمساواة مع الحكومة المركزية في الخرطوم، كما بدا لكثيرين، كان التحسن الذي طرأ على علاقات الخرطوم مع انجمينا، وزيارة الرئيس ديبي للسودان ولقائه مع البشير، فتشاد ينظر إليها منذ اندلاع النزاع المسلح في دارفور على أنها طرف أصيل في اللعبة العسكرية والسياسية الدائرة في الإقليم، فضلاً عن تصاعد الحديث عن دعمها لحركة العدل والمساواة على وجه التحديد، وتوفير الملاذ الآمن والإسناد لها، فَضلاً عن وصل الحركة بالإمدادات العسكرية والمالية التي تأتيها من هنا وهناك، حديث تصاعد على نحوٍ خاصٍ عقب هجوم حركة العدل والمساواة على مدينة أم درمان في مايو من العام 2008م، وصوب حينها كبار مسؤولي الدولة أصابع الاتهام نحو تشاد. على خلفية ذلك، بدا الاتفاق السوداني التشادي الأخير على الإحجام عن دعم المعارضة هنا وهناك، وإبعاد المعارضتين السودانية والتشادية عن المناطق الحدودية، بدا ضربة قوية لحركة العدل والمساواة بحرمانها من ملاذها الآمن في عُمق الأراضي التشادية، فَضلاً عن الدعم والإسناد اللوجستي والمالي الذي تسهله تشاد، وقرأ المراقبون في اتفاق الخرطوم وانجمينا حينها خطوة تمهد لاتفاق ينهي الحرب في الإقليم، خاصة وأن المساعي الإقليمية والدولية أخذت تمضي في اتجاه التسوية، عبر محاولات توحيد الفصائل وتحركات المبعوث الأمريكي سكوت غرايشون في المنطقة، إلى جانب جهود الوسطاء القطريين. خليل إبراهيم، نفى أن يكون قد وقّع اتفاق انجمينا الإطاري مع الحكومة مُضطراً، في إشارةٍ لعدم تَأثُّر الحركة باتفاق السودان وتشاد حول التضييق على المعارضة المسلحة، وقال في حوار نُشر الأسبوع الماضي أنه يرى تحقيق السلام بعيداً وقريباً في ذات الوقت، وأضاف أن ذلك يتوقف على مدى تعاون الحكومة في المفاوضات مع حركته، فيما نفى جبريل إبراهيم مسؤول العلاقات الخارجية في الحركة تعرضها لضغوطٍ من الولاياتالمتحدةالأمريكية للاستمرار في التفاوض، فيما أكد تعرضهم لضغوطٍ من الاتحاد الأوروبي وفرنسا في ذات الاتجاه، أما الموقف الحكومي فقد ظَلّ على ما هو عليه، رفض حصر المفاوضات على حركة العدل والمساواة، وتوسيع الحوار ليشمل كل الفصائل الراغبة في السلام. موقف الحركة ضد إشراك فصائل أخرى في منبر الدوحة، على قدمه، إلاّ أن له علاقة بتفاصيل ما دار في الدوحة نفسها خلال الفترة الماضية، ففي لحظة ما طرح بقوة موضوع الوحدة الاندماجية بين الحركة والفصائل الأخرى، وأبْدت حركة العدل استعدادها للاندماج مع الفصائل تحت اسم مختلف، وإعادة تَشكيل أجهزتها ليشترك قادة الفصائل المندمجة، لكنها اشترطت في المقابل احتفاظها بمنصب قائد الجيش في الحركة الجديدة للحفاظ على تماسك الجيش وانسجامه، ويقول زيدان عبد الرحيم مسؤول ملف دارفور في الحزب الاتحادي «الأصل» الذي شارك في لجنة توحيد الفصائل بالدوحة أنه يرى موقف الحركة موضوعياً في هذه الجزئية، أما الفصائل فأبْدت خشيتها من ذوبانها في حركة العدل والمساواة إذا ما تمّت الوحدة الاندماجية، وتوحّدت عِوضاً عن ذلك في كيان منفصل تحت عنوان حركة التحرير والعدالة، وعرضت التنسيق مع حركة العدل. دخول العدل والمساواة على خط طالبي التأجيل يُوفِّر المزيد من الحيثيات للمتشككين في قيام الانتخابات في موعدها المضروب، لكنه يصطدم بتمسك الحكومة بالجدول المعلن للانتخابات، ويصطدم كذلك بالسباق الانتخابي الفعلي الذي بدأ بين القوى السياسية والمستقلين جميعاً عقب فتح باب الترشح ثم إطلاق الحملة الانتخابية. قدرة حركة خليل على التمسك بموقفها الرافض لمواصلة التفاوض حال توقيع الحكومة اتفاقات مع الفصائل الأخرى تبدو محكومة بمعطيات الأوضاع الإقليمية والدولية، والأوضاع داخل دارفور نفسها، فالولاياتالمتحدة دخلت اخيراً في مشروع التسوية عبر مبعوثها غرايشون الذي أشرف على توحيد عدة فصائل في أديس أبابا أواخر العام الماضي، كما قام بجولات ما بين دول الجوار وقطر للتنسيق والتمهيد لجولة التفاوض الحالية، والراجح أنَّ الولاياتالمتحدة لن تقبل بتعطيل خليل لمسار العملية السلمية، خاصةً وأنها تنظر إليه باعتباره أحد الإسلاميين كما أشارت لذلك تصريحات نسبت لناطق رسمي أمريكي عقب اتفاق الدوحة الإطاري، كما أنّ تحسن علاقات الخرطوم مع انجمينا يضيق مساحة المناورة أمام خليل، ويقول اللواء محمد عباس الأمين الخبير الإستراتيجي، إنَّ تشاد تربطها علاقة إستراتيجية مع خليل، فهو كرتها الرابح في مواجهة الخرطوم، وتدخلات المجتمع الدولي في علاقتها مع السودان، ما يضعف احتمالات إقدامها على إبعاده تماماً، لكنها قد تمارس بعض الضغوط عليه لحمله على التفاوض، وهو ذات ما ذهب إليه العميد حسن بيومي مسؤول غرب أفريقيا بجهاز أمن مايو، أن تشاد عقب تقاربها مع السودان ستضغط على خليل باتجاه التهدئة والتفاوض، ويضيف اللواء الأمين أنّ حركة خليل تراجعت عسكرياً عقب هجومها على أم درمان الذي أمدها بزخم سياسي وعسكري، ستحرم نفسها من استغلال ما تبقى منه إذا واصلت تمسكها برفض التفاوض، ويخلص إلى أن القوى الإقليمية والدولية تتجه نحو التسوية، ما يجعل خليل هو الخاسر الأكبر إذا ما استمر في موقفه الرافض للحوار. من جانب آخر، يبدو دخول د. التيجاني السيسي الزعيم القبلي البارز والخبير الدولي في الأممالمتحدة إلى عملية التسوية عبر بوابة حركة التحرير والعدالة التي تشكلت في الدوحة عاملاً آخر يضيق المساحة التي كان يتمدد فيها خليل، فالسيسي ومجموعته يمثلون جماعة ذات ثقل قبلي وسياسي، حُظيت بقبول دولي وإقليمي، وإن كانت ذات قدرات عسكرية محدودة مُقارنةً بالعدل والمساواة. (ال?يتو) في مفاوضات سلام دارفور لم يثبت نجاحه وقدرة صاحبه على الاحتفاظ به لوقت طويل على أيِّ حَالٍ، فعقب الهجوم على أم درمان أشهرت الحكومة (?يتو) ضد التفاوض مع حركة العدل والمساواة، وأكّدت أنّها لن تفاوضها بعد فعلتها تلك، قبل أن تعود لاحقاً لفتح قنوات الحوار مع الحركة، خليل نفسه أعْلن مراراً أنَّ الفصائل الأخرى بلا وزن، لكنه جلس معها في النهاية ليناقشها حَول الوحدة الاندماجية بالدوحة، وها هو يعلن موقفه الرافض لأيِّ اتفاق بين الحكومة وحركة التحرير والعدالة، رفض قد يواصل رجل كخليل التمسك به، وقد يبقيه في جيبه الخلفي ويواصل جولات التفاوض، ليشهره في وجه الجميع عند اللزوم.