صعقني صديق أثيوبي بخبر. موت «اياسو برهي»، بالموت المفاجيء.. بالسكتة القلبية، ليضيف، بذلك، رقما كبيرا، لسلسلة ارقام الراحلين من اعتى واقوى أعمدة ثورة التقراي على الدكتاتور الاثيوبي منقستو هايلي مريام، تحت راية «الجبهة الشعبية لتحرير التقراي». وروى الراوي الخبر ان الثائر برهي كان في رحلة فنية خارج العاصمة اديس أبابا، وأدى فاصلا من الاغنيات التراثية التي يجيدها، في الحفل، وجلس على كرسي، لحين استئناف الغناء ، وحين ازف الوقت وطلب منه الصعود الى المسرح، اكتشفوا ان برهي قد صعد الى السماء، وخلف رحيله سحابة من الشكوك لم تنقشع بعد. رحل قبل اعوام ملهم جيش التقراي وقائدهم الميداني «هيلم». كان وسيما لحدود السحر، وشجاعاً لحدود الرعب، تحفه كاريزما يملأ ويفيض. تقول رواية موته انه اغتيل في بهو فندق في اديس أبابا، بطلق ناري من شخص مجهول، ثم رحل جيفارا التقراي وكان أحد أبرز قادتها الميدانيين في قطاع «قودي في» على الحدود بين السودان واثيوبيا واريتريا، القائد «تدسي» رحل في ملابسات أقرب الى ملابسات رحيل «هيلم». عندما زرناه في «قودي في» وجدناه نحيلا طويلا تتدلى منه لحية كثة مبعثرة مهملة، يضع على خصره مسدسا ضخما، وعلى رأسه طاقية تشي جيفارا، وكان تدسي في مقدمة الثوار الذين دخلوا اديس ابابا، حين داهموا الاسود في عرينها. ثم توارى عن الانظار في ظروف غامضة،على ما يحكى انه واحد من ستة أسسوا الثورة المسلحة في التقراي، وحكيم الثورة، وقائدها لسنوات:«سبحات نقى»..وتساقطت أشجار كبيرة أخرى، على طريقة الثورات تأكل بنيها، فردا فردا..بالموت او بالاقصاء، كما يحدثنا التاريخ عن ملهم الثورة الفرنسية روبسبير، الذي قطعت الثورة التي أسهم في تأجيجها رأسه بالمقصلة، وعن تروتسكي، الذي دهسته الثورة البلشفية في روسيا، والثورة الكوبية، التي حصدت رجالها الكبار، حيث ذهب كمليو في حادث طائرة ، ولحق به جيفارا عندما جرته حبال الثورة من كوبا الى بوليفيا وأوقعته هناك في المصيدة، وتوالت الثورة الكوبية تأكل بنيها، ولم يبق من المؤسسين، إلاَّ زعيمها كاسترو وشقيقه راؤول الرئيس الحالي، وذهبت ثورة يوليو في مصر في ذات الاتجاه. ثم أكلت ثورة التقراي ضد منقستو، أخيرا، ابنها البار الفنان «اياسو برهي». لا بد أن الخبر سيصعق الزملاء:محمد يوسف،والفاضل كباشي،والفريد تعبان، وصالح عجب الدور، وعبد الرحيم،وكل من اتيحت له الفرصة، في النصف الاول من القرن الماضي لرؤية تقدم ثورة التقراي، من داخل الثورة، من الميدان، من ادغال كاليما واحراش سلسلة جبل داجنا وفيافي «قودي في»، ومن تقراي العليا، وتقراي السفلى، وتقدمها من كل مكان في اثيوبيا صوب اديس ابابا، حيث يتحصن منقستو وحاشيته خلف أسود متوحشة كاسرة. كان برهي فنان الثورة الأول. ينطق من قلبها،كان شريانها ووريدها،كان برهى اكسجين الثورة. وكانت الثورة تتنفس برهي. كان مقاتلاً وفياً مثله مثل الآخرين، وكان يمتلك في الاراضي المحررة- حيث انطلقت الثورة من عمق الاقليم، منتصف السبعينيات من القرن الماضي - صوتاً يلامس السماء، وكلمة لها فعل الطلقة، ولحناً ينساب يشق طريقه الى القلب، فيشتعل القلب بالثورة، وزياً عسكرياً وحيداً مبعثراً، يلتصق على جسمه النحيل، كيفما اتفق، وطاقية يعتمرها على طريقة بوب مارلي. هذا الشاب يتشبه بالراستفارينز، وحذاء من نوع «الشدة»، احد جوزيه يتلوى مع عرج رجله اليمنى. وليس على الاعرج حرج، ويطل برهى من خلف نظارة شمسية بائسة تخترقها عيناه، تراها مشدودة كسهم صياد ماهر. هكذا كان يبذل برهي نفسه للثورة، قلباً وعقلاً ومساماً. تقدم له الثورة الوعد والامل، وهو يعطيها كل شئ. سألته عن مكان والديه، فقال، في هدوء، هو طبعه في الحديث:لا أعرف عنهما شيئاً، وعن اخوته: لا اعرف..وقال إنه على أمل ان يلتقيهم حين يتحقق الوعد ويبلغ الأمل مراميه. «زللى»، كانت اشهر اغنيات برهي، وتعني باللغة العربية:( تقدم). بمناسبة العيد العاشر للثورة تغنى اياسو ب «زللى» في حفل اقيم في قاعدة عسكرية في منطقة ما في التقراي، ونقلنا اليها، انا وكباشي ومحمد يوسف، سراً وخوفاً من ان يتسرب امرها الى «الدرك»، والدرك هم جنود منقستو في قاموس ثوار اثيوبيا، حفرت الأغنية مجارى واسعة للدموع فسالت ملحا ساخنا على مراقدها:كان الضابط يبكي والجندي يبكي والجندية تولول، والاشجار تصرخ وتثور، والجبال تردد مع اياسو :«زللى»، واياسو يقفز من مكان إلى آخر ، يهز المسرح يحرض الثوار واللحظة والمكان: تقدم. موت اياسو أعاد لي شريط ذكريات ثرة أمضيتها بين ثوار الجبهة الشعبية لتحرير التقراي في أراضيهم المحررة عامي «87 و1988»، وبين يدي مشروع كتاب باسم «ثورة المسدسات»، كتاب لو رأى النور يروي قصة ثورة بدأت بستة مسدسات وبضع رجال ومذكرات أنور خوجة ولينين وستالين وماو تسي تونغ، انطلقت من «قودي فى» في الاسفل،ثم صعدت الى اعلى «داجنا»، وتوسعت، الى (كاليما وشرارو واندسلاسي واكسوم ومحمد النجاشي وعدي قرات ووقرو ثم مكلي)، الى ان دخلت اديس أبابا في يوم مشهود. لا أدري متى تكتب القصة، بشكل نهائي، في بلد لا تشجع على التأليف، لاسباب كثيرة، أولها عشوائية العلاقات الاجتماعية، وثانيها الكسل، في تقديري. او بسبب المناخ السوداني الحار، في تقدير الشاعر والباحث التيجاني سعيد في نظرية نشر مقتطفات منها. وأشار ابن خلدون أيضاً في مقدمته عن ما يسببه المناخ الحار من خمول وكسل.