كان دائماً يراها مثلما حلم بها قبل آلاف السنوات الضوئية، ليست مجرد أنثى وإنما مجموعة من الأحضان العشيقة المختبئة داخل أنثى، كغابة ظلت منذ بدء الخليقة تكافح للعيش وسط الصحراء وهي كاملة الأمازونية، كاملة العذرية، بكل طيورها المغردة، ووحوشها المفترسة، وأغصانها المتشابكة كعاشقين ظلا يحلمان بلحظة لقاء لن يحدث إلا في الأحلام. كان على أسوارها يقاتل، مأخوذا بفتنة الجوع، تاركاً الأعمال العظيمة لعمالقة التاريخ، عندما كان التاريخ يسير، ماذا كان يفعل هو؟ ببساطة كان يحبها فقط، كان يبحث في داخلها عن شوارع صغيرة، عن أزقة ضيقة، بعيداً عن أعين الناس، ليس بالضرورة ان تكون معبدة، ولا حتى ان تكون مخضرة، المهم فقط ان يستطيع هو التنزه في داخلها حتى بعد الموت، سيكتب في بداية كل شارع «هذا الشارع يحمل إسمي»، لا أحد يقرأ هذه اللافتات سواه، لكن هذا أيضاً ليس مهماً، المهم فقط ان يستطيع هو التنزه في داخلها حتى بعد الموت، بعد برهة، سوف تشعر تلك الأنثى الكاملة بهذا التطفل اللذيذ، ثم تأخذ في الصراخ: «رجل في دمي.. رجل في دمي»، وفي مستقبل بعيد يدرك أخيراً سر تلك الصرخات المحمومة البريئة، آخذاً في الحسبان أن القبلة قطاف مرئي لثمر غير مرئي وغير مباح في رواية أخرى. - «لا تتعجل ان تصبح شاعراً أيها الحزين، أبق أطول ما شئت في مرحلة ما قبل الشاعرية، الشاعر في الحياة ليس كما في الكتب، فالأشعار هي الهزائم، ربما تنتظرك الورود في النهاية، لكن الأشواك هي التي تبقى طويلاً، وعندما لا تستطيع التحمل أكثر، فحين ذلك ستولد الأغنية من تلقاء نفسها: «ولا الحزن القديم أنتي.. ولا لون الفرح كنتي».. وردي.. آه.. ذلك الهوميروس الأسود». هكذا خاطبه ضميره المثقل بالذنب، في ذات الوقت الذي كانت هي مسكونة بالشهوة المرئية، حالمة بشفتيه السمراوتين عاريتين، وترددان: «حبيبتي يا جرحي النازف، يا فراولتي اللذيذة، يا جسداً تمنيت الموت تحت قدميه، أنا وأنت في الموت سواء، يا امرأة تصعد من جسد الوردة ومن رعشة البكاء إلى ضباب العشق والمأساة.. من أين تقبلين وأين تذهبين؟». وبعد ان تسمعها شفتاه كل هذه البذاءات، تصحو مذعورة وقد تبللت بالعرق البارد، تكتشف لوهلة ان دموعه كانت قد غطتها بالكامل، من رأسها لأخمص القدم، تطوقه بذراعيها ثم تهمس: - «أناشدك الله، دع عنك كل هذا الحزن القديم.. وتعال لملم حطام عشقي، تعال، تعال، قبل أن تطمرني رياح الواقع، أو يبعثرني الكناسون... ضمني حتى الموت». ينظر نحوها لوهلة ثم يتمتم: - «أتعلمين، أحياناً أحلم بأن يكون بيننا تواطؤ جسدي على نحو ما» وقبل ان تكتمل يشعر بشفتيها الورديتين وهما تلثمانه بجوع، يحس بالحياة تدب في جسده النحيل، وتأوهاتها تشق صمت الليل في تناغم فاضح، بلا هواجس بلا دموع، ويداه تعبثان بمفاتنها التي طالما أشعرته بالهوية.. وفي تلك اللحظة بالذات، يفقد القدرة على التذكر.. هكذا فقط، دون طقوس، دون أمجاد.