« إن القاص الحقيقي هو ذلك الإنسان الذي بوسعه أن يجعل فتيل حياته الخاصة وقوداً هادئاً لنيران قصته» وولتر بنجامين ? الكتابة والقراءة (بين الماذا والكيف ؟؟) الكتابة والقراءة عمليتان شديدتا التعقيد والتركيب . والرؤية التقليدية لكليهما تنظر إليهما كمنجز product) , ) أي النظر إليهما من خلال معاينة نتائجهما النهائية . أما النظرة الحديثة, فتركز على معاينتهما كعمليات processes) ) فالأولى تجيب عن (ماذا تم ؟ ) في حين تجيب الثانية عن( كيف تم ما تم ؟ ). ويمكن تصنيف غالب النظريات والمنهجيات النقدية وفق هذين الطريقين . ------------------------------------------------------------------------------------- ويمكن لطلاب الدراسات العليا والدارسين عندنا - وفي العالم العربي والإفريقي عامة - بحث الكتابة والقراءة عبر المنهج العملياتي . ومن ذلك دراسة المياكنزمات والعادات والطرائق المتعددة التي يتبعها الكتاب والقراء الناجحون والمهرة خلال عمليتي القراءة والكتابة, ومقارنة النتائج بالدراسات الشبيهة عالمياً . ولا يقتصر ذلك على الكتابة الإبداعية فقط , بل يشمل أنواع الكتابة كلها . فالدراسات الحديثة تشير , مثلاً إلى أنه لا توجد كتابة جيدة من دون عمليات كتابية جيدة ومن دون تعب . فهنالك مراحل الكتابة المتعددة (ما قبل الكتابة (prewriting ) الذي يشمل تكوين الأفكار و تجريب التكنيك و الكتابة الحرة-الآلية والمهارات التخطيطية , وخلال الكتابة ( while ? writing ) الذي يحتوي على التسويد المتعدد drafting) ) وما بعد الكتابة ( post-writing ) الذي يشمل المراجعة والتحرير) . ولكل مرحلة أهميتها ودورها في تشكيل النص. ونستحضر هنا عبارة هاري شو الشهيرة « لا يوجد شيء اسمه كتابة جيدة . توجد دائماً إعادة كتابة جيدة « ومقولة أحد كتاب أدب الخيال العلمي ( مايكل كريكتون) : الكتب لا تكتب , إنما تعاد كتابتها . ويروى عن العبقري همنجواي قوله أنه كان يكتب صفحة واحدة جيدة , مقابل إحدى وتسعين صفحة رديئة , لا يملك إلا أن يسرع بها إلى سلة المهملات !! وقال ريتشارد كروميار « إن أجمل ما في الكتابة أنها ليست كعملية جراحية في المخ ? لا ينبغي علينا أن نفعلها صحيحة من أول مرة « (بيث شوب 2002) . ويندرج ضمن هذه العمليات بحث الطقوس الغريبة التي يمارسها بعض الكتاب المهرة . فبعضهم له طقوس غريبة !! إن الجودة تقتضي تدريب العاملين في مجالات الكتابة والقراءة علي هذه العمليات . ? النصوص كائنات خاصة النصوص كائنات خاصة . تمتلأ بشروط زمانها كما يمتلأ بها زمانها. و النص المفتوح هو الذي تتعدد طبقاته وآلياته في إنتاج المعنى , ويصبح- تالياً- مشروعاً مفتوحاً للقراءة وإعادة القراءة . ويتحقق هذا عن طريق امتلاك النص لخصائص داخلية معينة . فمع امتلائه بكل حمولات زمانه - يتجاوز ذلك إلى مخاطبة سياقات و زمانات أخر !! هذه خصائص وآليات ليست واضحة تماماً وليست غامضة كل الغموض ! ويمكن أن نلتقط أشياء مثل : المرونة- الأسفنجية ? التجاوز- الانمطاط- اللانهائية الهدوء الداخلي ? التوق إلى شيء ما غامض , الخ . وفي الأحوال كافة , يبقى النقد - بصفته شريكاً رئيساً لعملية الخلق الإبداعي - هو الذي سيكشفها ويستولدها ويستفصحها ويأتي بها (من مافي! ). ? الطفل الذي ملأنا بالدهش مجموعة (الصمود والانهيار) لمحمد المهدي بشرى صدرت في1987 - بعد أن كانت نشرت متفرقة في الصحف منذ منتصف الستينيات . وهي نصوص تكشف عن وعي اجتماعي باكر جداً لكاتبها الشاب المملوء وقتها بهول الفكرة و بركان العاطفة و الرغبة العارمة في التغيير . و تتكشف كذلك لدى قراءتها ثانية ,عن امتلائها بهاجس ما.. ليس واضحاً كله.. لكنه يجول هنا وهناك , وبمخاطبتها لمشكلات صادرة عن سياق اجتماعي ريفي-- رغم أن كاتبها ولد ونشأ في الخرطوم ! تبدأ بمشهد الموت القروي المفجع وتنتهي به. لكن البداية لا تشبه النهاية تماماً (إذ تفتح فاجعة الموت الأول, على شقوق الذات فيما تفتح الأخيرة على ماكينات الجمعي). و من خلال هذا الموت الفاجع تحاول الشخصيات تلمس هويتها وذاتيتها التي تتجلى معالمها في إطار مجتمعي-صراعي مستعر . إذ سرعان ما تتحول صدمة الموت لدي البطل وعياً اجتماعياً بحقائق الصراع الاجتماعي( صدمة موت = وعي ذاتي + وعي جمعي) . وفي وسط المجموعة تتناثر مشكلات المجتمع وقضايا المكدودين والسلطة والمرأة وصراعات مجتمع في طور الثورة والتوق المتعب و»عذابات التكوين» . وللطفولة حضور وجمال وحزن وزهو ودهش ذو شكل خاص . ولو كنت محل الكاتب لاخترت (الطفل الذي ملأنا بالدهش) وهو عنوان إحدى القصص اسما للمجموعة كلها ! فهي قصة جميلة وذات تكنيك عال وتخلط حرارة الصراع بحنين وهدهدة اللغة الرومانسية . ? التابو في السرود الجديدة التابو Taboo) ) كلمة يرتد أصلها إلي كلمة في لغة التونقا (جزر التونقا ) وتعني الممنوع /المحظور الاجتماعي ! وقد دخلت الكلمة اللغة الانجليزية عن طريق الرحالة الانجليزي جيمس كوك في القرن الثامن عشر . وقد انسربت الكلمة, بعد ذلك إلي جل لغات العالم , وأصبحت ظاهرة تحظى بالدرس والبحث والمعاينة في حقول إنسانية شتى ! تفيض كثير من السرود السودانية الجديدة بالتابو (اللغوي-الاجتماعي) خاصة تلك التي تشتغل على فضاءات الهامش الثقافي ( على فكرة, مركزة الهامش وإبرازه تكاد تكون اتجاهاً عالمياً في الكتابات الفكرية والأدبية, ومن خلاله استطاعت الكتابة أن تواصل دورها الحضاري المتعاظم في التاريخ ) ! ويتشكل هذا التابو - بشكل خاص - عند ( عبد العزيز بركة ساكن في امرأة من كمبو كديس ورواية الجنقو وأبكر آدم إسماعيل في الرحيل إلي المدن المستحيلة ) . وقد لعب التابو دائماً وظائف متعددة في تاريخ الأدب والفنون - خاصة إذا ما تم توظيفه بشكل جيد, إذ إنه مما يستسهل .. ومن مظاهر توظيف التابو , اختيار الشخوص (القاعية) , الآتية بعنف من أسفل المجتمع ( the under-world) , ) ومركزتها عبر دوران الأفكار والشخوص والأحداث حولها باستخدام طريقة (التبئير) . ويتم تحريك الشخصية القاعية (بائعة الشاي / الكسرة أو بائعة العرق والخمور البلدية , أو قد يكون بطلاً صادراً عن معاناة مجموعة عرقية معينة وسط محيط ثقافي ضاغط ) من منطقة الهامش والقاع إلى مناطق الاهتمام والمركزة الاجتماعية من خلال احتفاء السرد بهذه التفاصيل الدقيقة ! ويتخذ الراوي غالباً , موقفاً حاداً ساخراً مناوئاً لرموز السلطة كالشرطة والقضاء والسجون وغيرها ويجرنا للتعاطف مع أبطاله (القاعيين)!! ومن وظائف التابو اللفظي (من قبل الراوي أو الشخوص أو الحوارات التي تبدو جانبية ) العمل على التفريغ النفسي والاجتماعي وتصريف الاحتقانات الاجتماعية الوافرة من خلال إتاحته نوافذ للعنف اللغوي والتجديف الاجتماعي والتهبيش على المناطق عالية الخطر ! . ومن اللافت , الآن أن أناساً مؤدبين جداً وذوي ثقافة عالية يمارسون التابو في بعض المواقع الالكترونية(على عكس ما يعتقد البعض أن هؤلاء غالباً من الطاشة والثقافة المتدنية), مما يثير أسئلة عدة عن طبيعة ودور التابو في حياتنا !! . إذ أن التابو , غالباً ما يصدر عن رغبة جامحة في مقاومة السلطة- بمعناها الفوكووي العام. وعبر هذه الرغبة ? التي تصبح مشروعة من خلال سياقات السرد- تفتح الشخوص لنفسها آفاقاً أوسع من الحرية والتحقق الذاتي-الاجتماعي. ? فضاء الحديقة تمثل الحديقة فضاءً وسيع الدلالة والسعة التأويلية في سرود عيسى الحلو ! فهي الفضاء الذي تتمكن من خلاله الشخوص المحزونة والمأزومة من التأمل والفلترة والدوران في أزمنة متعددة . والحديقة بكثرة ورودها في نص الكاتب تلعب وظائف متعددة : دور اللازمة المكانية غير التقليدية بحكم إنها بطبيعة هيئتها و حضورها في الفضاء الحضاري المعاصر تبدو متحررة من قيود المحددات التاريخية والجغرافية. ولكنها , أيضاً , مشرعة على ردهات النفسي -الداخلي ! فكأنها مكان يتحرر من المكان وكأنها زمان يدور في اللازمان وكأنها ضوء ينعكس على نفسه ويضيء مكوناته الفيزيائية الداخلية الخاصة - تلك المعطونة في المساءات و الرطوبة وبخار الحياة ودخان الصور وهرجلة الكون ومواء الذات وشبق المرايا وزفيف الصمت والأسى الزجاجي (راجع مجموعات : وردة حمراء من أجل مريم وقيامة الجسد والملاك الجميل يمر من هنا - وروايات صباح الخير والعجوز فوق الأرجوحة...الخ) ! وتأخذ فضاءات الحلو شكلها الخاص عبر إجادته لتقنية المشهدية السينمائية . وهي طريقة أثيرة لدى الكاتب-- الذي ربما تكون قد تسربت إليه من إدمانه مشاهدة السينما في صباه, إذ كان يعيد مشاهدة الأفلام الكبيرة عشرات المرات , فتكونت لديه حساسية جمالية مشهدية عالية . وسبّكها , فيما بعد , باستئناص السرد لتقنيات اللوحة التشكيلية والمقطوعة الموسيقية ! فضاء الحديقة ودوره التشكيلي في خطاب الحلو السردي من الأمور التي لم تدرس وقد تحتاج عودة . ? خاتمة : إيميل 30 نوفمبر 2009 عزيزي عبد الماجد , كل عام وأنت بخير , ولك جزيل الشكر على رسالتك ,أرجو أن تقبل اعتذاري لتأخري في الرد عليك لبعض الشواغل التي طرت في نهاية الأسبوع . عجبت من حسن المصادفة أن تبعث لي بكلمات الكتيابي وتذكر التجاني (التجاني يوسف بشير) , في وقت ظللت أفكر فيه كثيراً في التجاني بعد مشاهدتي لفلم اسمه Bright Star ) ) عن جون كيتس. يا لضيعة التجاني وسطنا- وضيعة آخرين بالطبع ! حدثت زوجتي عن التجاني بعد مشاهدتنا للفلم ووجدتني بعدها أحس بشيء من الراحة وكأنني أشعلت شمعة صغيرة صغيرة وسط ظلام كثيف. نعم, تقصيرنا كبير على كل المستويات ولكن دعنا نأمل أن المستقبل سيكون أفضل العمل في الكتاب يسير ببطء ولكن بوتيرة منتظمة وأتمنى أن أفرغ منه بنهاية العام القادم .لك خالص تحياتي, محمد محمود (الرسالة أعلاه من الصديق والأستاذ المفكر والباحث السوداني والأكاديمي الرفيع الدكتور محمد محمود, المقيم في بريطانيا والذي أنجز دراسات وبحوث ذات قيمة علمية وفكرية عالية ,وهو أستاذ سابق بآداب جامعة الخرطوم ) .