أصدر مركز كارتر بياناً في «17 أبريل» عن مراقبة الإنتخابات وجاء في صدره: «أنه من المبكر جداً طرح تقييم شامل ونهائى، إلا أنه قال بأن الإنتخابات ستكون دون المستوى الذي يلي المعايير الدولية والتزامات السودان في إجراء إنتخابات حقيقية». وسوف نتطرق للمفارقات التي أسقطها التقرير بحكم مراقبتنا المحلية اللصيقة لما صاحب العملية الانتخابية وصولاً لغاية التحول الديمقراطي المنشود دفاعاً عن حق المشاركة الفاعلة. وتفعيلاً لإرادة الشعب التي صاحبت عملية الانتخابات التي جاءت مبرأة من العلل التي صاحبت التجارب السابقة، ومعايير التقييم أغفلت أسباب فشل التجارب السابقة التي نجملها على علاتها وعلى سبيل المثال في أسباب متعلقة بالأحزاب التي تفتقر المؤسسية والتنظيم وتقوم على ولاءات تزور فيها إرادة الناخب باسم الطائفية والقبلية، أضف الى ذلك ان التجارب السابقة صاحبتها حرب استنزافية في الجنوب انعكس أثرها على مجمل التجربة الديمقراطية والتدخل السافر من الأحزاب التي تؤلب الجيش لاستلام السلطة عند عجزها، وساعد في ذلك المحيط الإقليمي للسودان الطارد لتطبيق هذه الصيغة الديمقراطية وموقف الدول الكبرى من التجارب الديمقراطية التي لم تجد غير التآمر على الديمقراطية تارة بإشعال نار الحروب ومرات باغتيال الديمقراطية دعماً للإنقلابات العسكرية والاعتراف والتعامل معها. وكل هذه الأسباب الواقعية لم ترد في تقرير مركز كارتر رغم إيرادها لفذلكة تاريخية منذ العام 1989م أغفلت فيها أهداف حكومة الوحدة الوطنية التي أتت بالسلام وتحقيق مبدأ المشاركة الفاعلة وصولاً لبناء الوجدان الديمقراطي القائم على تفعيل الإرادة الشعبية الذي أثبتته وقائع تسجيل ستة عشر مليون ناخب في هذه الإنتخابات مقارنة بعدد السكان الحقيقي بعد خصم دون المأذون لهم قانوناً بحق التصويت. وإغفال هذه المسائل لا يعطي التقرير الذي أصدره مركز كارتر مصداقية المعايير التي تقوم عليها المراقبة الحقة التي تستوجب النظر الى تهيئة البيئة الفاعلة من أجل المشاركة الفاعلة لأطياف الشعب كافة. وماذكره مركز كارتر باستحياء عن الإنتخابات بوصفها معياراً رئيسياً في إتفاقية السلام جانبه في نعيه على الحقوق والحريات الأساسية التي قيدت طوال فترة الإنتخاب مسقطاً أن إتفاقية نيفاشا في العام 2005م أسست لدستور إنتقالي 2005م الذي نص في بابه الثاني لوثيقة الحقوق والحريات التي جاءت بها المادة «27» وتضمنت حتى الحقوق والحريات التي أرستها المواثيق الدولية. وهذا الإسقاط لمسألة وجود دستور إنتقالي يقدح أيضاً ثقة في التقرير لأن أساس عملية التحول الديمقراطي برمتها وتكوين المفوضية وحتى قانون الإنتخابات جاء نتاجاً للدستور الإنتقالي للعام 2005م الذي ضمنت فيه إتفاقية نيفاشا 2005م. وأقر تقرير المراقبة بوجود إنفتاح سياسي محدود للإنخراط في العملية السلمية، وما يؤخذ على هذه الجزئية عدم إلمام مركز كارتر بأن الإنفتاح السياسي لم يأت خلال عملية الانتخابات بل بدأ منذ نشوء الدستور الانتقالي 2005م وتدليلاً على ذلك أن الاحزاب السياسية حتى المنسحبة شاركت في العملية الانتخابية إقراراً منها بوجود انفتاح سياسي، غير أننا نصبو أيضاً مع ما ذكره المركز من إجراء عملية المواءمة بين الدستور الانتقالي 2005م والقوانين المصاحبة له تجميلاً لما يصاحب السياسة التشريعية من تشوهات متعلقة بحال التناقض البيّن. وتطرق التقرير الى أيام الاقتراع من «11 - 15» وأغفل القيد الزمني الذي جاء إصلاحاً للأخطاء اللوجستية أو الفنية، ولم يرق التقرير لمستوى الأمانة في ذكر المشاركة الفاعلة لقطاعات الشعب التي تسابقت لمراكز الاقتراع تعبيراً عن حقها وتفعيلاً لإرداتها للإدلاء بصوتها، وهذه المشاركة التي تراوحت بين «60% الى 70%» توضح أشواق الشعب وصولاً لصيغة تضمن التداول السلمي للسلطة وتعكس وعياً شعبياً وعقلاً جمعياً في التواجد خلف المصالح العليا للوطن بل يمكن القول إنها المرآة الحقيقية التي تعكس روح الوحدة نحو وطن يتسامى فيه الفرد نزولاً للمصلحة العليا وحفظاً لمقدرات ومكتسبات الوطن. وما تطرق اليه تقرير مركز كارتر من عيوب صاحبت العملية الإنتخابية التي لم تصل الى درجة الإعتراف بوجود الأخطاء القانونية التي تطعن في نزاهة العملية الانتخابية وذكره العيوب دون مراجعة قانونية يمثل تجميلاً لما ساقته بعض بيانات القوى السياسية التي لم تستوعب حال الحراك السياسي الذى أصاب تربة الأحزاب في مقتل، فلم يكن أمامها بد إلا الإنسحاب. ويحسب لحكومة الوحدة الوطنية إحداث هذا الحراك السياسى الذى يمثل قيم تفعيل الإرادة الحرة والمشاركة الفاعلة دون وصاية أو تبعية وهي قيم أصيلة في شجرة الديمقراطية المتمددة نحو غاياتها.. التقرير أغفل مسألة استتباب الأمن الذى لازم العملية الإنتخابية والذى يؤكد قيمة اصيلة من قيم التحول الديمقراطي وهي رضاء الشعب عن سير العملية الإنتخابية.. وتحدث التقرير في عجزه عن فذلكة تاريخية للعشرين سنة الماضية ومن خلال ما سقناه نجد ان التقرير ركن الى المعايرة بدلاً عن المعايير والتي وصفت العملية الإنتخابية للتحول الديمقراطي في إطار جزئى ملون لا يشبه حقائق الإطار الكلي، فالتحول الديمقراطي المحكوم وفق الدستور الانتقالي 2005م لا يمكن ان يقرأ إلا في جوانبه التاريخية والقانونية وحال الحراك السياسي الذى أفرزه ذلك الدستور منذ 2005م وصولاً لحقائق البيئة التي تسير عليها العملية الانتخابية وحال التشظي السياسي والتآمر الذى يحاك حول محيطنا الاقليمي.. ومن الغريب في أمر تقرير مركز كارتر المفارق لمعايير المراقبة الحقة إغفاله الاقبال الكبير للمرأة السودانية ناخبة ومرشحة، فكانت عنواناً للوعي ومثل حضورها اشراقات تجعلنا ننظر لغد واعد لديمقراطية الجندر.. وعن المفوضية التي سميت «بمفوضية خلف الله» شرعت الأقلام طعناً في خاصرة المفوضية القومية للانتخابات من منطلق «ان زامر الحي لا يطرب» فأخرجت صوت الآهة من جواها كنويح.. والمفوضية القومية احتسبت عملها لله وارتضت ما أصابها في إعتراف اقرب إلى الذنب من الخطأ، وسيكتب التاريخ يوماً ما اسطره عن بذل المفوضية وهمتها في انجاح سير العملية الإنتخابية التي انتهت بخيرها وبسلمها وأمنها.. وما يحسب للمفوضية انها أقامت عملية انتخابية في أوضاع استثنائية ورغم حال الأخطاء التي وقعت فيها أو تلك التي ترد على كل انجاز بمستوى الاعجاز لم نجد من جملة المراقبين الذين تعدى عددهم الثلاثة آلاف مراقب ما يجمل بذلها وعطائها وتحملها لسبع أيام حسوما ًعدا الأيام التي تطلبت جهداً في الإعداد والتدريب أو التي أعقبت التصويت وصولاً للعد والفرز في وطن المليون ميل مربع ولعدد ستة عشر مليون ناخب والآلاف من المرشحين في عملية انتخابية تبدأ من المجالس التشريعية حتى رئاسة الجمهورية.. وإن كانت العدالة في تقييم الأمور تقتضي قول الحق فإنني أقول إن عمل المفوضية يرقى لمستوى الإعجاز رغم ما شاب العملية الانتخابية من هفوات على سبيل اللمم الذى يجب ان يغتفر لها بل إن إعجاز المفوضية كتب عنواناً حضارياً تناقلته وسائل الإعلام المرئى والمسموع والمقروء أوضح وعي شعب السودان وأشواقه للحرية والديمقراطية وفق التداول السلمى للسلطة..