(1) (أنا مساعد الحلة أحسن مني)، بهذا التعبير السوداني الخالص، أختار كبير مساعدي رئيس الجمهورية مني أركو مناوي ذات ليلة ديسمبرية العام المنصرم، التعبير عن خانة اللا فعل السياسي التي يقبع فيها، وذلك على الرغم من أن صدره مدبج بالألقاب فإلى جانب الصفة الأولى (كبير المساعدين) فهو رئيس السلطة الانتقالية لإقليم دارفور ورئيس حركة تحرير السودان. وفي ذات الليلة الشتوية آنفة الذكر، التي التقت فيها أحزاب قوى الإجماع الوطني (إعلان جوبا) بجماهيرها داخل دار حزب الأمة القومي، نفث مناوي الهواء الساخن من صدره، ووصف مشاركته في الحكومة بالهامشية التي لا تتعدى الألقاب وطقوس البرتوكول. (2) ولم تكن تلك الغضبة الأولى لمناوي الموقع على إتفاق سلام مع حكومة الخرطوم في مايو العام 2006م في العاصمة النيجيرية أبوجا، فعقب هجوم حركة العدل والمساواة الشهير على أم درمان للمصادفة - في مايو 2008، يمم رئيس حركة تحرير السودان وجهه شطر بلدته (مزبد) مغاضباً بسبب ما قال وقتها إنه تلكؤ من جانب الحكومة في إنفاذ بنود إتفاقية أبوجا، وبقى على حالته الاحتجاجية السلمية تلك، زهاء أربعة أشهر، الى أن تمكن علي عثمان طه نائب الرئيس من إقناعه بالعودة والتوقيع على (مصفوفة الفاشر)، التي تمثل خارطة طريق لإنفاذ البنود العالقة في إتفاقية أبوجا. (3) وعقب ندوة قوى جوبا التي سرق مناوي أضواءها، توارى عن الأنظار، أو تم تغييبه كما أصطلح أن يقول هو، ولم يظهر على المسرح السياسي الا بعد إندلاع أزمة سوق الفاشر. ظهور مناوي على المسرح السياسي -هذه المرة- كان صاخباً، حيث طالب في الثاني من الشهر الحالي بتكوين لجنة تحقيق للنظر في الأحداث المصاحبة لمظاهرات الاحتجاج التي جابت فاشر السلطان فيما بات يعرف بقضية (سوق المواسير). (4) وحول سوق المواسير أو فيه، توترت العلاقات بين مناوي وعثمان يوسف كبر والي شمال دارفور، أو بالأحرى زاد توترها، فلطالما وصفت علاقة الرجلين بغير الودية على الرغم من أن كبر يفترض أنه الرئيس المناوب لمناوي في السلطة الانتقالية. كبر أقر في حوار أجرته معه (الرأي العام) الأسبوع المنصرم باحتجاز عدد من منسوبي حزب المؤتمر الوطني على ذمة قضية السوق، كما أشار إلى وجود عدد من المنتمين لحركة مناوي برفقة عضوية حزبه المحتجزين. أمس الأول الجمعة كشفت مصادر مطلعة ل (الرأي العام) عن ضلوع خمسة من قيادات حركة مناوي في قضية السوق حيث تسبب هروبهم بمبلغ (145) مليون جنيه في إنهيار السوق بتلك الصورة المدوية غير ان ذات المصادر أكدت أن الأجهزة الأمنية تمكنت من وضع يدها على حسابات وأرصدة الفارين، بل وتمكنت من إلقاء القبض على اثنين منهم بمدينة واو جنوبي البلاد. وبالتزامن وأزمة السوق، برزت الى السطح تصريحات منسوبة كذلك لكبر، قال فيها ان ولاة دارفور المنتخبين هو أحدهم- سيجيلون النظر فيما إذا كان مناوي سيتسمر على رأس السلطة الانتقالية، وأردف بأنهم غير ملزمين باستمراره في المنصب الذي منحته إياه إتفاقية أبوجا. وبعودة أخرى الى ميدان مناوي، فقد حملّ كبر مسؤولية أحداث سوق المواسير، ودعاه بحسب الجريدة الكويتية لإيلاء جهده في تجاوز أزمة السوق التي ضربت أطناب ولايته والكف عن دس أنفه في أمور السلطة الانتقالية وتعييناتها بإعتبارها شأناً لا يعنيه وانتقد تعامل الشرطة العنيف مع المحتجين الذين نعتهم مناوي بالعزل. ولم يرض ذو النون سليمان الناطق الرسمي باسم الحركة الا وان يضيف سطرين لحديث رئيسه، بعدم استبعاده ضلوع الحكومة في أزمة السوق، وساق ذو النون تبريرات كتقاعس الحكومة عن حماية اموال المواطنين وعدم مراقبتها لحركة النقد كبينات لإتهامه ذاك. (5) وكون قضية المواسير لا تزال في رحم المحاكم، سنركز فيما يلي على حديث السلطة الانتقالية، الحديث الذي نفاه كبر، بالرغم من تماشيه ونصوص اتفاقية أبوجا التي تقول في المادة الثامنة، المتعلقة بالسلطة التنفيذية القومية، فقرة (68): (على أثر الانتخابات الوطنية يقوم الحكام المنتخبون في ولايات دارفور الثلاث بتقديم قائمة مشتركة من ثلاثة مرشحين لتولي منصب كبير مساعدي الرئيس ورئيس سلطة دارفور الاقليمية الانتقالية ويقوم الرئيس بتعيين هؤلاء من قائمة المرشحين المقدمة اليه). مناوي لم يجد بداً من تأكيد صحة ما تمت نسبته لكبر، ولعل النص القانوني وقتها كان يتراءى أمام عينيه، ولكن ذلك لم يمنعه من إبداء حنقه على والي شمال دارفور ولذا قال: لا علاقة لكبر بالسلطة الانتقالية، وما قاله لشىء في نفسه. (6) ولمعرفة مآلات السلطة الانتقالية عقب إجراء الانتخابات، إتصلت (الرأي العام) بفاروق آدم عضو لجنة توحيد الحركات والناشط في حقل المجتمع المدني، فاروق طالب بمعالجة المسألة سياسياً بمنأى عن النصوص ودعا الى ضرورة النظرة الكلية للأمر في أبعاده المختلفة؛ فالجنوب بحسب فاروق متجه للانفصال، وبالتالي فإنه من غير المحبذ الدخول في مشاكسات مع قادة دارفور وبالطبع مناوي من اهمهم على الإطلاق، للمحافظة على تماسك الشمال، وأعتبر أية محاولة لإقصاء مناوي بمثابة الدخول الى عش الدبابير، وإشارة خضراء للرجل للعودة لمربع الحرب الذي غادره منذ العام 2006م. وحول الحديث الدائر عن محاولات الحكومة استرضاء د. خليل إبراهيم رئيس حركة العدل والمساواة عبر إزاحة مناوي، وإحلاله محله، نفى فاروق أن يكون خليل ساعياً بحال لإزاحة مناوي وقال إن مطالب رئيس العدل والمساواة تتمثل في أن تعود دارفور إقليما واحدا وتمثل في مؤسسة الرئاسة بمنصب أحد النواب أي أنها مطالب لكل أهل الأقليم. نفى د. ربيع عبد العاطي القيادي في المؤتمر الوطني أن يقوم حزبه بنقض غزل اتفاقية أبوجا باعتبارها واجبة التنفيذ وأشار الى أن أية خطوة سيتخذها الوطني ستكون وفقاً لتفاهمات سياسية مع فصيل مناوي، وبصورة لا تقدح في بنود أبوجا. ولم يحد محمد عبد الله ود أبوك عضو تحالف الحركات الموقعة على السلام عن الطريق الذي رسمه فاروق، ود أبوك أشار في حديثه مع (الرأي العام) لاستحالة تجاوز اتفاقية أبوجا كونها أسست بجانب الاتفاقات الأخرى القواعد التي تنطلق منها عمليات السلام والبناء في البلاد.. وفيما إقر ود أبوك بأن كبر مسنود في أحاديثه بالتفويض الانتخابي والنصوص شدد بأن مناوي مسنود بإتفاقية أبوجا التي اوقفت رحى الحرب التي لأ يأمل طرف في عودتها. وفي تقليل من شأن التراشق الإعلامي بين مناوي وكبر، أرجع فاروق الأمر الى التعامل بردود الفعل وطالب بضرورة إعمال العقل والمنطق خاصة والبلاد تمر بمنعرج حاد، داعياً الحكومة الى توسيع دائرة المشاركة لتشمل الجميع للوصول لسلام دارفور. (7) بعض الخبراء كان من رأيهم استمرار مناوي بالصيغة القائمة حالياً، على إعتبار أن أية محاولة لإقصائه تحت باب المسوغات القانونية والتفاوضية فضلاً عن دواع مثل ضعف الأداء، وعدم التنسيق مع أركان سلطة الانتقال، والإنفراد بعدد من القرارات سيجعله يعود لقريته هذه المرة مقاتلاً وإن بذات شعار الخروج الأول: (بدل الجلوس داخل القفص قلنا أحسن الجلوس خارجه لنشم الهواء).