مدخل: اختلاف الرأي .. يفسد للود قضية (هاشم صديق) منذ نعومة أظافرها، لم تخل الصحافة بصورة عامة والصحافة السودانية على وجه الخصوص من سجالات بين منسوبيها، والسبب الرئيس في ذلك اختلاف وجهات النظر السياسية والرياضية بين منسوبي مهنة البحث عن المتاعب. ومثلت السجالات إضافة حقيقية للعمل الصحفي كونها تعكس الرؤى المتباينة للأفراد والمؤسسات من مختلف الزوايا، ليحيط القارئ - نهاية الأمر - بالموضوع محل السجال من كل جوانبه، وينتج عن ذلك خروجه مسانداً لرأي بعينه، مدعماً في ذلك بالبراهين والأسانيد والتحليلات المنطقية. .... هذا عن السجالات التي يمكن توصيفها بالموضوعية، أما تلك التي تحيد عن ذلك الطريق قيد أنملة فإنها تسقط في فخاخ توصيفات أخرى أبرزها الشخصنة التي يعرفها العلماء على أنها إضفاء الطابع الشخصي على القضايا. ومن النقطة الأخيرة، اتجه بعض الصحافيين إلى الملاسنات كآلية للحوار مع بعضهم البعض بغرض النيل من الخصم عوضاً عن منهاج مقارعة الحجة بأختها ويحدث في كثير من الأحايين أثناء تلك الصراعات (الدونكوشيتية) أن تتعدى الأطراف حدود اللياقة واللباقة من خلال الولوغ في مواضيع تندرج في صميم الشأن الخاص. الملاسنات الصحفية، يمكنها أن تبدأ كنقاشات عادية بين الصحافيين محورها قضية محددة، وما تلبث أن تنفلت المسألة من مدارها الموضوعي، نحو آفاق الشخوص، وتكون ثالثة الأثافي أن ينجر الأطراف نحو ذلك المنزلق دونما كوابح من خلال الفعل ورده سواء أكان الرد مساوياً للفعل، أو يفوقه في المقدار ولكن الأمر الحتمي أنه مضاد له في الاتجاه. العجيب في مسألة التلاسن، أنه وفي بعض الأحايين ينشأ كنبت شيطاني، دونما أسباب واضحة للعيان، وفي أحسن التقديرات غير معلنة في الوسط الصحفي، حيث يهاجم أحد الصحافيين زميلاً له لأغراض الهجوم فقط أو لشيء في نفسه كما هو الظاهر، ومن باب رد الصاع يرد الشخص الذي تمت مهاجمته على مهاجمه، ومع الأخذ والرد يتحول الموضوع إلى معركة شرسة حال تدخلت فيها أطراف أخرى تسهم في افساد علاقات الود بين الأطراف المتشاكسة ما يعكر أجواء الوسط الصحفي. عدوان لفظي وعن الملاسنات أوضحت د. عبير عبد الرحمن - أستاذة علم النفس بجامعة الخرطوم ل (الرأي العام) أن الملاسنات نوع من التعدي اللفظي الذي لا يخلو من عدوانية، عدوانية قالت إنها ناجمة - في أغلب الأحيان- عن ضرورة رد الاعتبار وكون التغاضي عن الرد يمكن أن يفسر أنه ضعف ولذلك يأتي الرد في سياق الحفاظ على المكانة الاجتماعية فضلاً عن أنها - أي الملاسنات - تعبر عن حالة عجز مرتكبها في استخدام المنطق فيلجأ لاستخدام أسلحة غير مشروعة. في الماضي قديماً كانت أبرز الملاسنات الصحفية، تثار بين المثقفين والساسة حول سؤال رئيس: على عاتق من تقع مسؤولية إدارة الدولة؟ قبيلة المثقفين ترى أن المشروع الثقافي هو قوام الدولة والقاسم المشترك الأكبر لتماسكها ووحدتها، وذلك في قبالة نزعات ونزوات الساسة المتحركة التي لا تقوم على منهاج واضح، ويخلص المثقفون الى أن نزعات الساسة (ضيعت البلد). بينما ينطلق الساسة في هجماتهم على المثقفين من منصة انكفاء المثقف على مشروعه، الذي لا يتعدى حيز أوراقه واكتفاؤه بالتنظير في وقت البلاد فيه بأمس الحاجة إلى خطوات عملية منقذة للحياة لا يقوم بها إلا نطاسي فن الممكن أو السياسي. وفي فلك الأحقية بإمساك زمام مقاليد الأمر في البلاد، تدور المعركة الرئيسة بين قبيلة بني (ثقيف) ونظرائهم في قبيلة بني (سوس)، بيد أن المعركة سرعان ما تنتقل من ذلك المضمار لتحط برحالها عند محطة الشخصي ولعل السبب في ذلك اختلاف أدوات الصراع بين المدرستين، فيعمد المثقف إلى اتهام السياسي بالانتهازية والإقصاء فضلاً عن تهم تتعلق بالخيانة وتبديد المال العام وذلك عبر إخضاع السياسي للتمحيص الدقيق وكشف المستجدات التي طرأت على حياته في أعقاب توليه للمنصب. في غضون ذلك يتهم السياسي المثقف بالحالم الذي يعجز عن إحداث تغييرات ملموسة فضلاً عن تهم تتعلق بالانزواء والانبتات عن الواقع وقد تستمر الملاحقة إلى شخص المثقف وسلوكه للتدليل على حالة الفصام التي يرميها بها السياسي. الرياضيون الأكثر تلاسناً ويشتهر الوسط الرياضي دون غيره من الأوساط الصحفية بتفشي ظاهرة الملاسنات بين منسوبيه، وهو ما رده الأستاذ عبد المجيد عبد الرازق رئيس القسم الرياضي بالصحيفة إلى التطرف في الميول الرياضية بجانب الانحياز إلى أفراد منتمين إلى هيئات رياضية، ويشير عبد الرازق إلى أن تلك النوعية من الانحياز تظهر جلية في مواسم انتخابات الأندية والهيئات الرياضية. وأبدى عبد الرازق تشاؤمه من قرار المجلس القومي للصحافة والمطبوعات القاضي بزيادة عدد صفحات الصحف الرياضية ل (12) صفحة وأعتبره بمثابة الضوء الأخضر لتلك الصحف لكي تملأ صفحاتها بالثمين والغث واتاحة حيز اضافي للملاسنات. الوصول للصحافة السياسية وبالعودة مرة أخرى إلى الأجواء الصحفية الراهنة، نجد أن الغبار لا يزال عالقاً بين مجموعة من الصحافيين المرموقين الذين جرتهم الوقائع إلى حروب كلامية حامية الوطيس أو لربما تم دفعهم دفعاً إلى ذلك الأتون الملتهب. ولأن الوسط الصحفي تأرجح في تسمية ما حدث بداخله الفترة الفائتة بين السجالات والجدال والملاسنة والهتر، فإن المعركة التي دارت رحاها بين كوكبة من الأقلام الصحيفة أكد كثيرون أنها تجاوزت خطوطاً حمراء لكونها أوغلت في إماطة الغطاء عن الأشياء الشخصية التي ليس مكانها بأي حال من الاحوال صفحات الصحف..فقد كانت هناك حرب زبون أطرافها الأساتذة الهندي عزالدين رئيس تحرير (الأهرام) اليوم، وجمال علي حسن مدير تحرير (الحرة)، وياي جوزيف بالزميلة (أجراس الحرية)، وجرت معها بعض الأطراف الأخرى. وبالرغم من أن تناول الموضوع يتسم بفرط بالغ من الحساسية، إلاَّ أن (الرأي العام) حاولت استقصاء القضية من أطرافها المختلفة، فجلست إلى الأستاذ جمال علي حسن مدير التحرير بالزميلة (الحرة) وأحد الأضلاع الرئيسة فيما دار مؤخراً لتسأله عن المكاسب التي خرج بها من معركته تلك إلى جانب تسليط الأضواء على الخسائر التي يمكن أن تكون قد ألمت به. جمال، أكد أن ما قام به عبارة عن رد على إساءات وجهت لشخصه من قبل الأستاذ الهندي عز الدين رئيس تحرير الغراء (الأهرام اليوم)، على خلفية انتقادات وجهها للهندي ليس بصفته الصحفية ولكن باعتباره شخصية عامة مرشحة للانتخابات. وفيما وصف جمال الأسلحة التي استخدمها ب (غير المحرمة)، أكد أنها لا تتناسب واللياقة وقال: اعتذرت لقرائي عن تلك النوعية من الكتابات التي لم يعتادوها مني. وحاولت (الرأي العام) الاتصال بالأستاذ الهندي لاستبانة موقفه من المسألة، ولخلق توازن بين أطرافها المتعددين، بيد أنها آبت ب (خفي حنين) على إعتبار أن الاتصالات بهاتف رئيس تحرير (الأهرام اليوم) تحولت الى مكالمات لم يرد عليها. أمر مؤسف ونعت الإتحاد العام للصحافيين السودانيين الملاسنات التي يتورط فيها منسوبوه بالأمر المؤسف وعبر د. محيى الدين تيتاوي نقيب الصحافيين عن أسفه العميق من تسخير بعض الصحافيين أقلامهم لفضح بعضهم البعض، وقال ل (الرأي العام): الإعلامي يحمل رسائل مؤثرة للمجتمع ولذا عليه التحلي بالمبادئ والمثل العليا والأخلاق. من جهته، نفى د. أحمد خليل أستاذ الإعلام بجامعة السودان بصورة قاطعة أن تتمخض عن الملاسنات مكاسب وإن ضئيلة، وأشار في حديثه ل (الرأي العام) أن الصحافة السودانية ولوقت قريب كانت تخلو من الملاسنات، وإن حدثت، فبأسلوب أدبي ظريف وبلغة دلالية لا تلقي بصاحبها في تهلكة جرائم النشر. أضرار بلا حصر وتنقسم الأضرار التي تلحقها الملاسنات بالصحافة إلى: أضرار خاصة تلحق بالمتورطين في التلاسن كالقطيعة الاجتماعية فيما بينهم، بجانب آثار وإسقاطات نفسية سالبة قد تخلفها الملاسنة على الوالغين فيها وربما تعداهم الأمر ليصل لأسرهم. وأخرى عامة تصيب المؤسسات الإعلامية بأكملها نحو خلق تكتلات صحفية تحول دون اندماج وانصهار الصحافيين، وتؤدي إلى حالة من النفور بين القراء والصحافة، فالقارئ بحسب د. خليل يطمع من متابعته الصحف إلى إضافة معلومات جديدة، أو التسلية، أو والبحث عن الثقافة أو لكل تلك المسوغات مجتمعة، وهي أمور قال إن الملاسنات لا توفرها بحال وأكد أن الصحف التي تلجأ لذلك الأسلوب ستخسر قراءها ومكانتها في السوق. وصفة علاجية ومع تعدد أقنية الحل، أكد معظم الذين أستطلعتهم (الرأي العام) أهمية الالتزام بأخلاق المهنة كسبيل وحيد للحيلولة دون الوقوع في مزالق التلاسن، وطالبت د. عبير بإصلاح ذات البين بين المتصارعين وحل نزاعاتهم بالحسنى، والوصول للمحاكم - فقط - عند انسداد أفق للحل. بينما ناشد عبد المجيد عبد الرازق الصحافيين بضرورة الثبات الانفعالي وعدم التعامل بردات الفعل تجاه من يصوبون إليهم السهام بصورة تخلو من الموضوعية وضرب مثلاً بدكتور كمال شداد رئيس الاتحاد العام لكرة القدم السوداني الذي يغض الطرف عن كلما يوجه إليه من إساءات وانتقادات - على السواء - في الصحف. وفي سياق الحل، أوضح د. محيى الدين تيتاوي عن احتواء النظام الأساسي للاتحاد على جملة من المعالجات في مقدمتها توجيه النصح للصحافيين المتلاسنين وأشار إلى وجود لائحة مساءلة تحرص على عدم خروج الصحافيين عن ملعب القيم الصحفية. الإتحاد لم يكتف باللائحة وكشف د. تيتاوي النقاب عن آلية مكونة من ذوي الخبرة لعصم الصحافة من تدخلات الجهات الأخرى من خلال إنزال لائحة محاسبة الصحافيين لأرض الواقع، وقال من حق الآلية وحال تكررت خروقات الصحافي، سحب السجل الصحفي منه بصورة نهائية (وإن كان رئيساً للتحرير). وتجدر الإشارة هنا، الى أن المجلس القومي للصحافة والمطبوعات أوقع عقوبة الإيقاف على صحيفتي (الأهرام اليوم، والحرة) لثلاثة أيام متتالية عقب المساجلات الأخيرة قبل أن تقضي محكمة الصحافة والمطبوعات بإيقاف تنفيذ قرار لجنة الشكاوى بالمجلس الى حين البت في الاستئنافات المقدمة.