خلال الزيارة الأخيرة لبريطانيا ، اتيحت لي لقاءات وحوارات مع العديد من الشخصيات المعنية بملف العلاقات السودانية البريطانية لمعرفة المستجدات من جهة، والمؤشرات الدالة على الاتجاه من جهة أخرى، وذلك على خلفية الصلات التاريخية بين البلدين، وقد حكمت بريطانيا السودان لنحو خمس وخمسين سنة ولا تزال سياساتها وبعد نصف قرن ايضاً من الحكم الوطني غائرة ومؤثرة وفاعلة وبوجه خاص في الجنوب ، وفي تداعياته والذي خضع تماماً للادارة البريطانية واغلقته في وجه الشمال ثم اعادت فتحه بإذن مسبق. وهي - أي بريطانيا العظمى - وفي مفاوضات تقرير المصير والحكم الذاتي نوفمبر 1952م - فبراير 1953م للسودان مع الحكومة المصرية في القاهرة تمسكت بالبقاء في الجنوب لانها استناداً لمضابط المفاوضات لها مسؤولية خاصة نحو أهل الجنوب والذين يتمسكون ببقاء الادارة البريطانية وان لديها وثائق زعماء وسلاطين الجنوب تدعم هذا المطلب ، ولكن الوثائق المضادة من جانب المفاوض المصري قادت الى توقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير مصير السودان في 12 فبراير 1953م. وخلال الخمسين سنة الأخيرة 1956 - 2010م تلاطمت أمواج كثيرة وأحداث ومتغيرات وتحولات ويصعب الحصر، ولكن المشهد الماثل الآن في السودان، وبعد حرب الجنوب 1955 - 2003م واتفاقية السلام الشامل التي وقعت في العام 2005م وعلى الأبواب يناير 2011م لاجراء الاستفتاء وتقرير المصير للجنوب، ورغم ان اتفاقية السلام نصت على العمل للوحدة الجاذبة بين الشمال والجنوب فإن دعاة الانفصال ظلوا الأعلى صوتاً، والأكثر حدة والى حد تنظيم المسيرات للتعجيل بالانفصال (مسيرة جوبا 9 يونيو 2010م) وفي لندن. طرح التساؤل أين تقف بريطانيا بخلفيتها التاريخية وارتباط ادارتها بالسودان بوجه عام والجنوب بوجه خاص؟ وجاءت الاجابة: إن بريطانيا توسطت واسهمت باشكال متعددة في توقيع اتفاقية السلام 9 يناير 2005م بنيروبي، وقد اختارت للسودان أحد افضل دبلوماسيها المتقاعد سير ديريك بلمبلي «الذي يجيد اللغة العربية» كرئيس لمفوضية التقويم والتقييم لاداء وتنفيذ اتفاقية السلام الشامل، وهذا أمر يعكس الحرص والمتابعة لاتفاقية اوقفت الحرب، ونقلت الجنوب والشمال على حد سواء الى مرحلة جديدة، ولها أيضاً تأثيراتها على المستوى الاقليمي، ومن المتابعات واللقاءات مع الدبلوماسيين وصناع القرار البريطانيين تجاه الاستفتاء (الوحدة او الانفصال) فإنهم يرون أن من الافضل للسودان ان يكون موحداً، وهم يسعون الى ذلك عن طريق اقناع قيادات الجنوب في ان يحسم أهل الجنوب وصندوق الاقتراع وحده مسألة الوحدة او الانفصال، أي أن يكون الخيار والاختيار نتاجاً لارادة ولرغبة أهل الجنوب، وإن هنالك ميلاً من جانب الحكومة البريطانية لخيار وحدة الشمال والجنوب، والسفيرة البريطانية وقبل مغادرتها للخرطوم أبلغت الحكومة السودانية وبوجه خاص الرئيس عمر البشير لدى وداعه مساندة بريطانيا لوحدة السودان. وفي حوارات ولقاءات بين مسؤولين بريطانيين مع قيادات جنوبية جاء تركيزهم على ان خيار الوحدة هو الأفضل «واذا قررتم الانفصال فالمرجو منكم تأخير عملية الاستفتاء وتقرير المصير للأسباب التالية: 1/ الجنوب في الظروف الراهنة غير مؤهل ويفتقر لمقومات دولة ذات سيادة. 2/ لا يوجد هيكل قوي وأجهزة لقيام دولة. 3/ توجد صراعات وتيارات وخلافات داخل الجنوب. 4/ ليس بمقدور الدولة الجديدة ان تحفظ الأمن لنفسها، وأحداث الصراعات والاشتباكات في الفترة الاخيرة تعكس هذا الواقع. 5/ ليس بمقدور الدولة الجديدة في الجنوب الانفتاح التجاري والاقتصادي لغياب وانعدام منفذ على البحر وستكون دولة مغلقة. 6/ ستواجه الدولة الجديدة صعوبات جمة لوجودها في وسط غير مستقر (شمال الكونغو، وافريقيا الوسطى ومنطقة البحيرات). لكل هذه العوامل ترى الدوائر الرسمية في بريطانيا ان من صالح قيادات الجنوب ان تعمل في اتجاه ترجيح الوحدة، لأن الوحدة تفيد الجنوب كما تفيد جيران السودان. ونقل لي السفير الكفء عمر صديق الذي استطاع بحنكة ومثابرة ومع طاقمه الدبلوماسي والاعلامي الممتاز في السفارة السودانية في لندن دفع العلاقات الثنائية الى الامام وعلى كافة المستويات واستناداً الى الثقة والاحترام والمصالح المشتركة: «ان الحكومة البريطانية مقتنعة بأن مسألة الوحدة او الانفصال قضية يقررها المواطن في الجنوب وفي استفتاء حر ومباشر، وان مسؤولية الشريكين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية بذل جهود مشتركة لتغليب خيار الوحدة على الانفصال، ولكن لا بد ان يؤخذ في الاعتبار وجود تيارات ومنظمات واللوبي الاستثماري والشركات الذين يرون أن مصالحهم تنشط وتتسع في اطار جنوب منفصل وبالتالي فان هذا التيار مع الانفصال».