قال محدثي يواصل حديثه عن ليلة التواصل في تلك الوليمة التي اقامها الضابط المشهور في قوة دفاع السودان و«نحن لم نزل في ثلاثينيات القرن العشرين»، ابراهيم عبدالجليل صحب «شلته» بعربة كان يمتلكها ماركة «اب رفسة» التي يقودها سائقه واسمه «حمد». اذن كان هنالك خليل فرح يحمل عوده وابراهيم عبدالجليل والمرأة المحتشمة فوز الموردة عاشقة الشعر والأدب والموسيقى والغناء والمحاورات... ذكرنا ان ابراهيم كان يصحب معه صهره الريفي الوقور القادم من كركوج «محمد حاكم»، وهو والد الرياضي لاعب الكرة المشهور في ذلك الزمان «عبدالجليل» كان هناك من المدعوين لهذه الوليمة الفخيمة بعض نجوم المجتمع وبعض ذوي المواقع المرموقة.. دار الحديث عن الشعر العربي وطوفوا على لحن خليل لقصيدة عمر بن ابي ربيعة التي بدأ التغني بها: ما ذاك من نعمي لديك اصابها ولكنه حب لا يفارقه حب فان تقبلي باعزة توبة تائب لا يجد أبداً له ذنب وتحيط المشاعر بالفنان ابراهيم فقد فرغ للتو من تلحين اغنية جديدة ربما لعبيد عبدالرحمن: ضاع صبري أين وصلي قلبي في نار الغرام مصلي يا عقود آمالي انفصلي ما بقيف من النواح أصلي عقلي يوت كل ساعة ينفصل فيك ضاع يا طيبة الأصل يا لعيون عاد روقي وأحلي كفي رمشك ده المجرحلي ليك نسايم الشوق دوام رسلي صرت ميت والدموع غسلي زاد من نار الصدود وجلي يا معاني الشعر والزجل باهي جيدك والخديد مجلي والهلاك في الأعين النجل الى آخر الغناء.. وحين يختتم عصفور السودان «وصلته» هذه ويأخذ حديث الجالسين يتفرع ويدور حول قضايا متفرقة يلاحظ ابراهيم ان قريبه الذي صحبه معه ذلك المقبل من كركوج ليس موجوداً في مقعده مع الضيوف فحمل عليه هماً واشفاقاً.. ونهض على مهل لا يريد أن يشعر احداً بما يشغله، ومن صفاته انه شديد الحياء.. خرج من حوش البيت بحثاً عن قريبه في الظلام..وعلى عجل اعتلى عربته يريد ادارتها واضاءة أنوارها لكي يرى قريبه وهو قليل خبرة بالقيادة فادارها في سرعة فاذا العربة تتحرك الى الخلف وهنا انطلقت صيحة مفجوعة من تحت العربة فقد كان ذلك هو قريبه الذي خرج للتبول كما هو حال الريفي في ذلك التاريخ البعيد.. فقد دهسته العربة فغطت الجميع سحابة من الكدر واستعجلوا الانصراف.. بينما عادت شلة فوز الى ام درمان..فقد أصيب الرجل في مقتل كادت الحسرة وتعذيب الضمير يسحقان الفنان ابراهيم سحقاً، اسكتوا أنين النساء خاصة فوز التي كانت في ذروة اشفاقها وقد قر قرارهم على محاصرة الحادث حتى لا يتعرض الفنان الى المحاسبة والتحقيق، وتلك قصة أخرى تخرج بنا عن سياق موضوعنا الأصل.. وقد قيل خطأ ان الشعر الذي انشأه خليل فرح فيما بعد كان يرمز به الى شيء من هذه الحادثة خاصة الأبيات التي تقول: بق نور الموردة ام عباب في محطة شوقي العتاب ديك مشارع خولة ورباب قف قليلاً نطوي الكتاب ....الخ قيل ان الشعر الذي وجهه خليل الى فوز الموردة يريد ان يتأكد بأن سر الحادثة قد انطوى فعلاً. في الافئدة ورمز إليه «بالكتاب» وان محطة «شوقي» التي جاء ذكرها في الشعر هي ذات المحطة التي تقع بالقرب من «قصر مبروكة» اي «صالون فوز الموردة» وكانت القضية تشغل بال خليل لانه يعز ابراهيم ويحبه حباً كبيراً ويرى فيه أملاً فنياً بلا نظير. ونلحظ في سيرة فوز جنوب السوق - وقد سبق ذكرها - ان الشعر أنشيء أصلاً وصفاً للطريق الذي يجتازه الترام في رحلته من جنوبالمدينة«ام درمان» وحتى السوق وعبر مركز البوليس الذي تحرسه «الذئاب» كما عبر خليل وحتى يصل الى بيتها، أو صالون فوز شمال ام درمان. والقصيدة التي أوردناها كلها من قبل تشير الى ذلك اشارات واضحة، ومن يدري فقد يكون قد خفى على الجميع أن «الرمزين» المذكورين يشير بهما الى «فوز الموردة» اي «نطوى الكتاب» و«محطة شوقي». ترى هل كانت قصيدة الخليل الغنائية التي أهداها لابراهيم عبدالجليل كانت بمثابة نعي له؟ وفي ذلك أيضاً قيل الكثير ونعني تلك التي من أبياتها: زمني الخاين ما بدور لو شهود ظلمك باين أنا جافيت النوم «يتبع»