«قالوا صاحب العصب المشحون بالقلق شخص يشعر بالقلق على أشياء لم تحدث في الماضي بدلاً من ان يقلق على شيء قد لا يحدث في المستقبل». داهمت امثال هذه الهواجس دائماً مجموعات منتديات الفوزات والفوزات نفسها بالاحرى اللائي تواءمت الظروف لكي تجعل منهن قائمات بشأن منتديات فكر وسياسة في زمن كان يجري فيه كل شيء همساً.. هو زمن استعر فيه جحيم الاستعمار اذ نحن لم نزل في نهايات ثلاثينات القرن العشرين اذ يفصل بيننا وبين الحرية ونيل الاستقلال ما يربو على العقدين من الزمان في مدار حديثنا السابق كنا بقرب «فوز الموردة» أو مبروكة التي جمع صالونها ثلة كريمة من المستنيرين وعارفي الشعر والموسيقى وكانت تلك الليلة التي شهدت وليمة اقامها لهؤلاء أحد ضباط قوة دفاع السودان ممن كان يهتم بالثقافة، ويحب اصحاب الرأي والفنون، انتهت تلك الليلة بمصيبة عندما دهس ابراهيم قريبه بالعربة دون قصد، بل من منطلق الاشفاق عليه اذ اراد ان يعرف مكانه في الظلام الدامس فادار العربة وهو لا يعرف القيادة فاذا بها تتحرك الى الخلف حيث كان يجلس قريبه منكود الحظ الذي جيء به اصلاً للترفيه عنه ولابهاجه واطرابه، وتمضي الايام ويظل اثر الحادث عالقاً بافئدة الذين حضروا الحفل على الاخص ابراهيم عبدالجليل الفنان المتألق في ذلك الزمان البعيد وصديقه خليل فرح وفوز التي رافقتهم الى هناك ومضى ابراهيم يردد الأغنيات الحزينة وعجيب ان تكون الأغنية حزينة: ضاع صبري أين وصلي قلبي في نار الغرام مصلي يا عود آمالي انفصلي ما بفيق من النواح أصلي عقلي يوت كل ساعة ينفصل فيك ضاع يا طيبة الأصل يا لعيون عاد روقي وأحلي كفي رمشك ده المجرحلي ليك نسايم الشوق دوام رسلي في هواكم كم ضائعاً مثلي ما سليتك وانتي كيف تسلي صرت ميت والدموع غسلي زاد من نار الصدود وجلي يا معاني الشعر والزجل أو انه يردد أغنية اخرى اشد حزناً.. اعني تلك التي من أبياتها مخاطباً الزمان: «زمني الخاين ما بدورلو شهود» ظلمك باين انا جافيتا لنوم أو اغنية اخرى تنتهي بالبيتن: كل يوم يا بدري انا ليك بالمرصاد ودعي ما حمَّد والشرك ما صاد هي خيبة امل في الزمان الذي خان الفنان لان المقادير جاءته بما لا يستطيع رده أو مكافحته.. جفاه النوم وفقد الامل حتى عند صاربة الودع في قوله: ودعي ما حمّد والشرك ما صاد» ابى وشراكه التي نصبها لكي تنتاش له الحظوظ ظلت فاغرة بلا رجاء. ونعود الى فوز أو «مبروكة» لنجدها محاصرة بالهموم، كأنها تريد ان تعتزل مجتمعها، ولكن برغم ذلك ظلت محمودة الخلال معروفة لدى الناس بسمو اخلاقها ورقيها في ذلك الطرف الاخير من ثلاثينيات القرن العشرين.