فيما تبقت ساعات قليلة عن ساعة الصفر لتحرك الإنقلابيين في تمام الساعة الثانية من صبيحة يوم الجمعة الموافق الثلاثين من يونيو، كانت الإذاعة تمارس هوايتها المحببة في بث أغانٍ عاطفية تعطي إنطباعاً أولياً كذوباً بأن كل الأمور في البلاد على ما يرام. فهي لم تكن تدري على الأرجح، بأن ثمة مفاجأة تخبئها لها الأقدار في تلك الساعة التي إستحالت بعدها موسيقاها العذبة، إلى محض مارشات عسكرية صاخبة توقفت لبعض الوقت بالقدر الذي يسمح بإذاعة بيان الإنقاذ الأول. وقبل إذاعة العميد وقتها عمر حسن أحمد البشير لذلك البيان الذي سُجِل قبلاً بمقر منظمة الدعوة الإسلامية، توجهت قوة من الجيش لدار الإذاعة بالتزامن مع قوى أخرى في ساعة الصفر. لم يكن بالإذاعة التي كانت تنام باكراً عند الساعة الثانية عشرة ولا تصحو إلا متأخرة عند السادسة صباحاً، سوى حرسها بقيادة النقيب أحمد حميدان. يذكر البعض هذه العبارات جيداً: « إن القوات المسلحة هي من الشعب وإليه، ومن الطبيعي أن تكون سنده الأول، وأن يكون أجرها شرف الجندية، لا شرقية ولا غربية» لكن قد لايعرف البعض بأن ذلك الضابط المتحمس الذي كان يردد تلك العبارات من على ميكرفون الإذاعة في 6 أبريل من العام 1985م، كان هو ذات الضابط الذي ردد تلك الكلمات صبيحة 30 يونيو 1989م مضافاً إليها.. سيذيع عليكم بعد قليل العميد أركان حرب عمر حسن أحمد البشير بياناً فترقبوه. ذلك الضابط كان الرائد وقتها حسن صالح عمر، قائد سلاح المهندسين الحالي والمسؤول عن الإستيلاء على الإذاعة في تلك الليلة، أو تأمينها كما يقول. فهو ككل العسكريين يرى أن الإذاعة تمثل (50%) من نجاح الإنقلاب، أي إنقلاب، ولذلك دائماً ما تكون محروسة بالدبابات ومؤمنة تأميناً عالياً بأهل الثقة من جنود وضباط المدرعات. صالح، تحدث ل «الرأي العام» على نحوٍ مفصل عن ليلة وصبيحة يوم الإنقلاب بالإذاعة، ومن حديثه نقتطف: كُنت في ذلك الوقت مكلفاً بتأمين الإذاعة وكباري أم درمان. وقد دخلنا للإذاعة بخدعة، فتفادياً للإشتباك والقوة المكلفة بالحراسة، ذهبت للنقيب أحمد حميدان وقد كانت بيننا علاقة خاصة، قلت له إن القوات المسلحة، وبعد مذكرتها قررت أن تقوم كلها بهذا العمل وقد أرسلوني لدعمك في الإذاعة بعدها تمكنا من الدخول إلى الإذاعة وتأمينها من الداخل. لم تكن تلك القوة التي إستولت على الإذاعة معنية بالبث، فقط كانت معنية بالتأمين، أما تلك فكانت مهمة آخر كان يفترض أن يأتي بفني لتشغيل الإذاعة ولكنه والفني لم يأتيا، ولن نذكر اسمه هنا لأن ذلك سيوقعه على الأرجح في حرج يزيد منه موقعه الدستوري الكبير. نجحت مهمة تأمين الإذاعة إذن، لكن مهمة تشغيلها باءت بالفشل. فلم يكن هناك من يستطيع تشغيل شريط المارشات المعتاد تشغيله في هكذا إنقلاب، بل لم يعثر على شريط المارشات نفسه فيما كان البيان الأول للثورة المُسجل قبلاً على شريط كاسيت موجود في جيب حسن صالح ولكنه بحاجة لمعالجة أخرى حتى يُمكن أن يعمل، في وقت كان يُنتظر أن يجئ الشريط الآخر بزخم وحراسة وشرطة عسكرية يفهم منها أن هذا تحركاً لكل الجيش وليس بعضه. بدا العميد محمد عثمان محمد سعيد حينها مشفقاً بعض الشئ بسبب تأخر تشغيل الإذاعة، واقتسم معه الجميع حالة من القلق حاول الشهيد المهندس محمود شريف تهدئته عندما قال أن بإبمكانه أن يشغل إذاعة على وجه السرعة من على ظهر لاندكروزر. هنا، توجه حسن صالح لسلاح الموسيقى بهدف الحصول على شريط مارشات عسكرية على وجه السرعة فقد داهمهم الصباح ولم تعمل الإذاعة بعد. وعندما دخل للموجودين في السلاح وقد كان لهم علم مسبق بالتحرك، طلب منهم إعطاءه شريط مارشات فأدخلوه في مكتبة يستغرق الوصول فيها إلى ذلك الشريط، ساعتين من الزمان. ولما لم يكن هنالك صبر، أو وقت كافيان للبحث. فقد ذهب صالح لإحضار شريط مارشات كان في معية أحد الأشخاص في أطراف أمبدة، ثم توجه إلى أحد فنيي الإذاعة بالعباسية بعد أن ساعده ورفاقه في الوصول إليه الفنان القلع عبد الحفيظ المساعد السابق بسلاح الموسيقى. مفاجأة غير سارة كانت في إنتظارهم بمنزل ذلك الفني الذي يسكن مع اخته، فقد كان مخموراً لدرجة صعُب معها إيقاظه وكأنه شرب للتو. وبعد جهد شديد حُمل الرجل إلى الإذاعة وأستطاع أن يشغل شريط المارشات بعد أن كسرت إحدى الغرف الزجاجية التي كان موجوداً بها، وربما لم يكن ليشغل الإذاعة إن كان واعياً يقول صالح ل «الراي العام»، ويقول كذلك: « من نعم الله علينا، أن سخر الله لنا هذا السكران لتقديم هذه الخدمة الكبيرة لدولة الإسلام». على أية حال، فإن الإذاعة القومية، ومن واقع أهميتها السابقة على الأقل، ولعبها لدور لافت في حياة الشعب السوداني السياسية والإعلامية، ظلت هدفاً رئيساً لكافة المغامرين والطامحين في قلب الأوضاع بالبلاد أثناء إمتطائهم لظهور الدبابات. فالإستيلاء على الإذاعة، والتمكن من إذاعة البيان الأول يمثل خطوة حاسمة في طريق نجاح الإنقلاب أو فشله، حيث تشجع السيطرة على الإذاعة العناصر الموالية أن تأخذ دورها في السيطرة على الأماكن المهمة وإصدار الأوامر بإعتقال مسؤولي الفترة المنقلب عليها، فيما يمثل الفشل في السيطرة عليها، فرصة القضاء على الإنقلابيين دون علم المواطنين وشعورهم أحياناً. ومهما يكن من أمر، فقد بات هناك إعتقاد واسع بأن زمن الإنقلابات العسكرية في البلاد قد ولى، بالطبع هذا إعتقاد من الصعب التحقق من صدقيته الآن. لكن في مقابل ذلك، فمن المؤكد أن دور الإذاعة القومية المحوري في أي إنقلاب محتمل قد ضعف جدا، كما انتهى زمان كانت تذهب فيه مظان المواطنين عند كل إنقطاع للبث لأسباب فنية، لإحتمال أن تكون هناك أسباب إنقلابية.. وجاء زمان آخر، بتقنيات أخرى، ليس مهماً معها إن فتحت الإذاعة ذراعيها للإنقلابيين بدفئها المعهود، أو لم تفعل.