إنصرف ابن حزم للعلم بكل عزيمته وأخلص له ولم يخلط به مآرب أخرى. وهذا ما يميزه عن كثير من الذين يعنون بالعلم والأدب ولم يقف عند هذا الحد بل «تفرغ لنشره بين الناس» فنفع به خلقاً كثيراً.. وذلك لأنه كان يؤمن بأن للعلم زكاة.. هي نشره وإذاعته. * ترك إبن حزم مؤلفات ضخمة تدل على سعة إطلاعه وغزير علمه وعظيم أدبه وقد «ملأ المغرب بعلمه وكتبه ومذهبه وشغل أهله أحقاباً طوالاً حتى لكأنه أمة واحدة لا فرداً من أمة». إعتز به الأندلس وباهي بفضله العراق يوم كان يعج بحضارة ما كاد التاريخ ان يرى لها مثيلاً. ويتجلى من كتبه ورسائله أنه كان يتمتع بفكر ثاقب وبصيرة ناقدة وملاحظة دقيقة. فقد فهم الشريعة حق الفهم وأفهمها باخلاص وصدق للناس وكان صريحاً ومخلصاً للحق إلى أبعد الحدود وقد ضاق علماء عصره وحكامه بصراحته وإخلاصه فشهروا عليه الحرب فاحرقوا كتبه واضطهدوه شر إضطهاد وصبوا عليه النكبات والمتاعب ويمكن القول إنه: «ملأ الأندلس حركة فكرية عنيفة آثارها سلبية وايجابية، وجعل مجالس العلم وأقطاب الفكر معسكرين أنصاراً وخصوماً». * وهذا يدلل على مقام العقل في الأندلس عند بعض علمائه وحكمائه فلولا التمسك بالعقل ولولا التمادي في تمجيده واعزازه والتقيد به لما كان في الأندلس حركة فكرية وتصادم في الآراء والأفكار. إبن حزم أروع مثل للعالم والمفكر الذي عانى في سبيل الفكر والعقل ما عانى فصبر وصمد وبقى حياً في كتبه ومؤلفاته فحيويته لم تنقطع بموته إذ اودعها مؤلفاته. إن المتصفح لأدبه وعلمه وأسلوبه يجد ان فيها ثورة علي التقليد فهو لم يتقيد بأسلوب من تقدموه ولم يلتمس في أدبه طريقهم يقول في هذا الشأن: «ما مذهبي أن أنضي مطية سواي ولا أن أتحلى بحلى مستعار». وإبن حزم صاحب رأي مستقل يأخذ بالعقل ويخالف بالعقل لهذا نراه حارب الخرافات وهاجمها بشدة حتى أنه استعمل الفاظاً نابية لا يليق بمثله ان يأتي بها وذلك من شدة ألمه من أن يأخذ الناس بالأوهام ويعتقدون بالخرافات كان يدعو إلى الأخذ بالعلم الصحيح والأعتماد علي العقل. يتجلى ذلك فيما كتب في كتابه «الفصل في الملل والأهواء والنحل» بشأن النجوم وأثرها في الناس وهل هي تعقل؟!». * قال إبن حزم: زعم قوم ان الفلك والنجوم تغفل وأنها ترى وتسمع وهذه دعوى باطلة وبلا برهان.. وصحة الحكم أن النجوم لا تعقل أصلاً.. وأن حركتها أبداً على رتبة واحدة لا تتبدل عنها وهذه صفة الجماد «المدبر» الذي لا إختيار له وليس للنجوم تأثير في أعمالنا ولا لها عقل تدبرنا به.. إلا إذا كان المقصود أنها تدبرنا طبيعياً كتدبير الماء والهواء ونحو أثرها في المد والجزر وكتأثير الشمس في عكس الحر وتصعيد الرطوبة «التبخر» والنجوم لا تدل على الحوادث المقبلة». ذلك ما قال إبن حزم -ومن هذه الآراء يتبين ويتضح ان إبن حزم بمنأى عن الخرافات التي يشيعها العامة ويصدقونها.. ولهذا نجده إهتم بنظرية المعرفة وهي نظرية تطلب الإجابة على ما يلى: كيف تعرف الأشياء- وماذا تعرف عنها وما الدليل على صحة هذه المعرفة؟ ولقد بحث في هذه النظرية فلاسفة اليونان لكن بحثهم لم يكن من العمق والسعة بحيث يجعلها كاملة إلى أن جاء الفيلسوف الالماني «كنت» «Kent» في أواخر القرن الثامن عشر للميلاد فبحثها بحثاً شاملاً وافياً جعل مؤرخي الفلسفة الاوروبية يقولون أن الفضل في إيجاد نظرية المعرفة وفي شرحها يعود أولاً إلى الفيلسوف «كنت» ولكن الدكتور عمر فروخ في كتابه «عبقرية العرب» درس الآراء التي وردت في كتاب ابن حزم وقارنها بما قاله «كنت» قتبين له ان نظرية المعرفة قد عرضت لإبن حزم قبل «كنت» بسبعة قرون ونصف قرن الذي يقرر منذ البداية ان المعرفة تكون بشهادة الحواس أي باختبار ما تقع عليه الحواس وطويلة شروحه وأدلته العلمية فيما كتب من هو إبن حزم؟ * إبن حزم - هو أبو محمد علي بن أحمد المعروف بابن حزم ولد بقرطبة عام 284ه نشأ إبن حزم شاباً أنيقاً ينتسب إلى بيتا رفيع من موالي بني أمية فقد كان والده وزيراً لدولة بني عامر- دخل ميدان السياسة وهو بعد في مطلع الشباب ثم عانى أو أصابه النفي واشترك في المؤامرات والتدبيرات فيما بعد ثم أصبح آخر الأمر مفكراً الغضب اللسان وجواب آفاق ينازل العلماء والفقهاء إشتغل بعلوم الفقه واللغة والحديث والفلسفة والمنطق والأدب والشعر والطب حتى قيل انه كان أوسع أهل الاندلس معرفة بالعلوم الإسلامية روي ان تآليفه بلغت «400» مجلد تشتمل على ثمانين ألف صفحة ولكن جلها قد ضاع. * أكبر مجموعة من شعره موجودة في كتابه المشهور«طوق الحمامة في الإلفة والآلاف» وهو دراسة نفسية للحب كتبه سنة 411ه -1020ميلادية مات مقتولاً العام 456ه .