حفارو القبور بعد إفراغ الشاحنات ال (ZY) السبع لحمولتها من الذرة بمدينة (أويل) ولاية شمال بحر الغزال، تحركت عائدة الى الخرطوم ثالث أيام عيد الأضحى المبارك مساء، وباتوا ليلتهم بمنطقة (ودوار) الواقعة بين (أويل) و(مجوك) ليصلوا رابع يوم في عيد الأضحى الى (تونكيو)، جنوب بحر العرب، وهناك في نقطة العبور قاموا بإجراءات التفتيش والتسجيل المعتادة. وعندما بدأت الشاحنات في التحرك أمرهم ضابط من الحركة الشعبية بعدم التحرك بحجة أن الطريق به مشاكل، فأنزلوا السائقين ومساعديهم الستة عشر بمعسكر الحركة بمنطقة (تونكيو) وقضوا الليل بمنزل الضابط. وبعد منتصف الليل بقليل، وبينما كانوا يغطون في سبات عميق إذ فوجئوا بعدد من جنود الحركة ينهالون عليهم ضرباً بالسياط فاستيقظوا مذعورين، وأوقفوهم صفاً واحداً ثم قادوهم الى غابة خلف المعسكر، وأمروهم تحت تهديد السلاح بحفر ثلاثة قبور كبيرة، الواحد يسع ثلاث جثث، هنا اعتقدوا أن نهايتهم قد دنت، وأنهم يحفرون قبورهم بأيديهم!!.. إلا أن مخاوفهم زالت بعد أن شاهدوا جنود الحركة الشعبية يحملون (8) جثث لجنود جنوبيين من الحركة مصابين برصاص، وأمروهم بدفنهم ففعلوا، عادوا بعدها لمنزل ضابط الحركة.. وفي الصباح- أمروهم بنقل كل المعسكر من جنود، وأسلحة، وذخيرة، ومواطنين، وعفش، وحطب، وقش الى منطقة (مجوك).. وداخل المعسكر كنا نقضي النهار بأكمله أسفل الشاحنات. بعدها طلبوا من السائق «محمد حسن محمد حسن» وهو من (بارا)، (04) سنة، يقود الشاحنة (0369 خ ل)، وبرفقته السائق «خالد محمد قسم عبد المولى» ومساعده، التوجه الى منطقة تقع بعد (ملوال كوال)، لجلب اسبير لدبابة معطوبة، وبرفقتهم (5) من جنود الحركة المسلحين، وأحضروا الإسبير وتوجهوا به الى الدبابة قرب منطقة (فرياك) ومنها تحركوا الى منطقة (أكويم) ثم عادوا مرة أخرى الى معسكر الحركة في (مجوك). إغتيال سائق بمنطقة (مجوك) ارتكب جنود الحركة مذبحة في حق السائقين العزل، تفاصيلها يرويها شاهد عيان من السائقين عاد الأربعاء الماضي الي الخرطوم بعد إطلاق سراحه مع بقية السائقين، الا وهو السائق «محمد حسن» السابق ذكره ولاحظت أن الذعر الممزوج بالحزن يكسو وجهه.. وبدأ يسرد تفاصيل المذبحة قائلاً:- «حوالى الساعة الثالثة عصراً كان جميع السائقين والمساعدين الستة عشرة يجلسون بجانب الشاحنات في الظل يلعبون الورق، بينما انهمك عدد من المساعدين في إعداد الطعام المكون من العدس وعصيدة الذرة.. فحضر ضابط من الحركة الشعبية وبرفقته عدد من جنوده، فخاطبنا بلهجة آمرة: ? «جيبو جهاز.. جيبو ثريا.. جيبو موبايل» - فقلنا له: «لا نملك هذه الأشياء». وعلى الفور أنزل سلاحه الكلاشنكوف من كتفه وصوبه نحونا، قائلاً: «بلا فوضي معاكم».. وكان السائق خالد محمد قسم المولى في مواجهته مباشرة يتكئ على العجل الأمامي الأيمن لإحدى الشاحنات فأمطره بوابل من الرصاص في صدره ورأسه، فسقط المسكين ينزف بغزارة، وكان يجلس بالقرب منه السائق عوض الله عبد الجبار.. يهرب ومعه بقية السائقين واختفوا داخل الغابة القريبة للنجاة بأرواحهم، وكنت آخر من هرب، فأمطرني الضابط والحرس بكمية كبيرة ومتواصلة من الرصاص، أصابت الجلباب الذي كنت أرتديه بثقوب كثيرة ومزق الرصاص رخصة القيادة التي كنت أضعها في جيب الساعة وكذلك الجنسية التي كانت في الجيب الأسفل الكبير.. أطلقت ساقي للريح بسرعة والضابط وجنوده خلفي بالرصاص، حتى دخلت المعسكر ووقفت أمام أحد ضباط الحركة مذعوراً ارتعد رعباً وخوفاً.. فسألني: ? ماذا بك؟ - قلت له: أحد الضباط قتل جميع زملائي السائقين، وإنني سأذهب لأبلغ رئاسة المعسكر، فزجرني بصوت حاسم: «اجلس واسكت ساكت.. ولو تكلمت بما حدث سأفرغ فيك هذا الرشاش..!!» بعدها أدخلوني داخل قطية وأغلقوها من الخارج.. وبعد حوالى (01) دقائق سمعت جلبة بالخارج، وأحد جنود الحركة يسأل عني، فأيقنت أنها النهاية فأخرجوني من القطية، فشاهدت جنوداً كثيرين اقتادوني الي المعسكر وهناك وجدت كل السائقين والمساعدين بخير، ما عدا السائق المرحوم «خالد» والمساعد «حبيب» الذي هرب بأعجوبة أثناء إطلاق الرصاص، وتسلل الى الغابة واختفى ولم يعثروا عليه رغم أنهم كانوا يبحثون عنه طوال الليل داخل الأحراش وبعد عودتي الي الخرطوم علمت أنه وصل الى مدينة الأبيض، كيف؟ لا أعرف، إلا أنه للأسف فقد عقله، فهو صغير في العمر، وما تعرض له من أهوال كفيلة بذهاب عقله. القبر المجهول كنا نتوقع مناداتنا لدفن زميلنا السائق الشهيد «خالد» إلا أنهم لم يفعلوا ولا ندري أين دفنوه لكننا علمنا أنه ظل في مكانه قرب الشاحنة حتى صباح اليوم التالي.. بعدها أدخلوا جميع السائقين والمساعدين الأربعة عشر- بعد وفاة «خالد»، وهروب المساعد «حبيب»- داخل قطية وفرضوا علينا حراسة مسلحة مشددة، وفي صباح اليوم التالي حضر ضابط من الحركة الشعبية، وكنا نقف صفاً، فأخذ يسأل كل سائق عن اسمه وقبيلته ثم عرفنا بنفسه قائلاً إنه مسلم، وإن قتل «خالد» أمر كان يجب عدم حدوثه وأخبرنا أنه أشرف بنفسه على دفنه داخل الغابة، وعندما طلبنا منه رؤية القبر رفض، ولذلك لا نعرف مكان القبر ولا كيف تم دفنه حتى هذه اللحظة. حزن ووجوم بعد مقتل السائق «خالد» أُصيب كل السائقين الخمسة عشر بالوجوم والحزن وبدأوا التفكير جدياً في الهرب قبل أن يلقوا مصير «خالد» ولكن الحراسة كانت مشددة ولذلك تخلوا عن هذا الخيار (الصعب).. وبعد ثلاثة أيام من مقتل السائق «خالد» أمرهم جنود الحركة بتجهيز الشاحنات للذهاب بها في مأمورية الى منطقة (فرياك)، فاستبدلنا إطار عربة المرحوم «خالد» الذي مزقه الرصاص، ثم قاموا بشحن كمية من العدس والأرز والسكر والذرة والمواتر وعدد من المواطنين الى (فرياك) التي وصلتها الشاحنات ليلاً، وفي الصباح أفرغوا الشاحنات ثم قادونا الى شرطة عسكرية تابعة للحركة جوار منزل قائد المعسكر، ومكثنا داخل راكوبة لمدة ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع في تمام الساعة الرابعة والنصف عصراً أمرونا بالتوجه الى منطقة (ونيك) التي وصلناها قبل المغرب، وهناك قاموا بتسليمنا الي عسكري من استخبارات الحركة الشعبية فوضعنا تحت حراسة عدد من الجنود بعد أن استلم منا مفاتيح الشاحنات.. وبعد صلاة المغرب حضر قائد المعسكر وطلب منا التحرك الى أويل ليلاً، فرفضنا وتحركنا صباحاً، ووصلنا أويل قبيل منتصف النهار، فقادونا الي رئاسة شرطة مرور أويل، وظللنا هناك(21) يوماً.. ولما طال حبسنا طلبنا مقابلة والي شمال بحر الغزال إلا أنهم رفضوا وسمحوا لنا بمقابلة أحد الموظفين بالإدارة العامة للولاية، وكانت ترافقنا امرأة من الحركة، بعدها توجهنا لمكتب جهاز الأمن بمدينة أويل التابع للحركة الشعبية، وأبلغناهم بما حدث لنا، وبمقتل زميلنا خالد، فقالوا إنهم سيرسلون تقريراً بالحادث الي جهة عليا لم يسموها.. وأخيراً أطلقوا سراحنا بعد أن أخذو من كل سائق (05) جنيهاً بواسطة صول من شرطة مرور أويل يدعى «اسماعيل» بلغت حصيلة المبلع الذي استلمه من السائقين حوالى (053) جنيهاً بعدها قادونا الى بحر (سفاهة)، ومنها وصلنا الى طريق (أم مطارق) الذي يقود الى مدينة الضعين، فأصبحنا طلقاء بعد أن أمضينا في الأسر شهراً كاملاً وأربعة أيام، وذلك منذ 22/21/7002م، وحتى يوم 62/1/8002م، واستغرقت رحلة العودة من أويل الى الخرطوم (9) أيام.. تعرضنا طيلة هذه الفترة للرعب والضرب والإهانة والنهب، واستولى جنود الحركة على بطاطين السائقين والمساعدين، ونهبوا من أحد السائقين مبلغ (006) جنيه، وأموالاً أخرى، ونهبوا أيضاً (5) براميل جازولين فارغة.. وأثناء الأسر كانوا يقودون بعض الشاحنات لداخل الغابة ويطلبوا منهم دفع (001) جنيه ومن لا يدفع لهم يهددونه بالقتل رمياً بالرصاص. أخيراً يطالب السائقون وأهل القتيل «خالد» بالكشف عن قبره، وإحضار الجناة لمحاكمتهم محاكمة عادلة، والتحقيق في هذه الحادثة