كأنما هؤلاء الذاهبون إلى طاولات المفاوضات والغادون منها ،يمتلكون مصير الشعبين في الشمال والجنوب، إذ هم يلتقون وينفضون بلا نتائج تشبع تطلعات الشعبين أو أحدهما. كأنما هم يستأثرون بضبط إيقاع الزمن أو لعلهم لا يأبهون بهذا الزمن المهدر على الطاولات. كم هو طويل صبر الشعبين في انتظار فرج يأتي وهو لا يأتي. كم هو كثير وطويل هذا الزمن المهدر على الطاولات المنصوبة أبداً على المجهول. كم هو مثير للضجر هذا المسلسل المعنون بالتفاوض حين يُعاد إنتاج الفصول المُنتَجة بدون تقدم جوهري في الحبكة أو الإخراج أو حتى تغيير في الوجوه. هي القضايا ذاتها المتفاوَض عليها طويلاً والمتفق عليها والموقع عليها يُعاد التفاوض عليها. هم المفاوضون أنفسهم. عند إنجاز (نيفاشا) جرى ترويج الاتفاق على أساس أنه خارطة طريق تستغرق في التفاصيل بحيث تنحصر مهام الطرفين في التنفيذ فقط. لدى كل بند دأب الطرفان نصب طاولة للتفاوض بحثاً عن سبيل لتجاوز عقبة ماثلة. ما أكثر العقبات البارزة على طريق تنفيذ نيفاشا. ما أكثر طاولات التفاوض بغية إيجاد مخارج على طريق التنفيذ. ما أكثر الاتفاقات الإطارية لنصب طاولات تفاوض للبحث في التفاصيل. كم هي طاولات التفاوض إبان المرحلة الانتقالية؟ كم هي اتفاقاتنا الإطارية لبحث المخارج؟ سنوات الحقبة الانتقالية نفدت ولم يكتمل مسلسل المفاوضات. هكذا ألفنا ما بات يُعرف بالقضايا العالقة انتظاراً لمفاوضات جديدة تلد اتفاقات إطارية تنتظر مفاوضات أخرى. هؤلاء المفاوضون المهَرَة ليس في قاموسهم كلمة »نهائية« أو »حاسمة«! لكثرة القضايا العالقة على خطوط الانفصال وتعدُّد طاولات التفاوض المتنقلة، لم يعد الشعبان يعلقان آمالاً على تلك الحلقات. كل البلاغات الصحافية الصادرة في أعقاب جولات التفاوض ما عادت تؤمِّن من خوف أو تغني عن جوع. الأزمة ليست في النصوص المُنتجة بل هي في المنفذين، إذ تتباين المنطلقات والغايات حد التقاطع والتصادم. أزمة المنفذين ليست أكثر من عرَض لمرض عضال يعانيه النظامان في الشمال والجنوب. هو عرَض المفاوضين كذلك. استعصاء المفاوضات ليس سوى مظهر لأزمة مستحكمة في بنى النظامين ومؤسساتهما. هي في الواقع أزمة النخبة السياسية الحاكمة غير المتصالحة مع ذاتها وغير المتجانسة مع الآخر. هي نخبة عاجزة تماماً عن استيعاب واقع شعبها، كما هي عاجزة عن إدراك مصالحه وعاجزة كذلك عن الإصغاء لطموحاته. إخفاق المفاوضين يشكل ملمحاً لفوضى عارمة يغرق فيها النظامان في جوبا والخرطوم حدَّ الجمود. داخل هذه الفوضى العارمة تتسع الفجوة بين الحاكم والمحكوم، بين السلطة والمواطن، بين النظام والشعب، على الامتداد الرأسي لهذه الفجوة الشاسعة يستشري الفقر والبطالة والتضخم والفساد. وسط هذه الفوضى تغيب المؤسسية ويتلاشى دورها وتتخذ مؤسسات الدولة طابع الشخصنة فتضعف البنية ويتضخم الرأس، فتتحوَّل المؤسسات إلى جزر معزولة في طوفان الفوضى. كل جزيرة تخضع للمزاج ولا تحكمها رؤية. في كتاب التفاوض الضخم الممتد من ثمانينات القرن الأخير عديدة الفصول لمحطات تباينت في رؤى المفاوضين وفقاً لكبيرهم في كل محطة أو جولة. أزمة نيفاشا نفسها لم تستكمل سابقاتها ، فلم تبدأ من حيث انتهت الجولة الأخيرة. المسألة لا تتطلب أكثر من نظرة خاطفة في كل جولة وإعادة ترتيب الأسماء ، ثم التمعُّن في حصيلة كل محطة للتفاوض. الأزمة مستمرة مع استيلاد الجولات. في غيابات الاستراتيجية الموحدة يتحرَّر المفاوضون من الالتزام بالوظيفة التفاوضية والانضباط السياسي. كل طرف يجنح لغواية التمظهر والكسب الآني تضخيماً للذات، أو تعزيزاً لموقع أحد الأجنحة المتصارعة داخل فوضى النظام. في ظل التصارع الداخلي مع غياب استراتيجية الدولة يصبح الحديث عن مشروع وطني يستثمر الاتفاق ضرباً من الخيال. داخل فوضى اضمحلال المؤسسات وصراعات الأجنحة تصبح المساءلة فضيلة غائبة. هذا أحد عناصر تمطيط المفاوضات. عملية التفاوض تعرَّضت لتفريغ ممنهج من مضمونها. عندما يتحدث أي فريق مفاوض عقب جولة ، يقابل العامة والخاصة المهتمون بالشأن العام الكلام عن انفراج، بالسخرية والاستخفاف. هؤلاء وأولئك ضجروا من جولات التفاوض لكن المفاوضين لم يسأموا حزم الحقائب والإقلاع والهبوط. في رصيدهم الكثير من الرحلات لكنهم لم يراكموا ضئيلاً من الإنجاز. كلما بلغ الطرفان حافة هاوية تدخل طرف خارجي بإغراء طاولات التفاوض واستدعاء المفاوضين الجاهزين. عقب كل جولة يصدر بلاغ بتفريغ لحظة الانفصال عند حافة الهاوية من شحنة التوتر فيتراجع الموقف إلى الجمود! مثير للدهشة عجز المفاوضين عن تطوير مهاراتهم بحيث يسمو الأداء فوق المساومات الآنية الضيِّقة للنظام إلى فضاء المصالح الوطنية الرحب. في الأولى تهيمن عقلية الغالب والمغلوب؛ بينما في الثانية تفرض روح التوافق البراغماتي نفسها. هكذا تلتئم وتنفض جولات المفاوضات بدون اختراقات للجمود كأنما الشعبان في الشمال والجنوب ليسا على مقربة من كارثة حقيقية. المفاوضون يبشرون، في أفضل الحالات، بتحقيق اتفاق إطاري يستوجب جولة جديدة ، كأنما الوطن لا يعاني من جراحات دامية تتطلب جهداً أكثر تركيزاً وربما طاولات مفاوضات إضافية. الأجنحة المتصارعة داخل الفوضى العارمة تتجاهل انقساماتها، وتتحدث بنبرة الواثق ببقائها في السلطة إلى الأبد. ذلك شعور لا ينجم عن ضعف الدولة وحده، بل كذلك عن هزال قوى المعارضة.