تقديم: هذا مقال عرضه علىَّ الأخ الاستاذ الطيب طارق الهد فنصحته بنشره حتى تعم الفائدة. والذين يعرفون قبائل السودان يعلمون ان اسم الهد يفضي الى أهلنا السناب «آل أبوسن» الذين اشتهروا بالرياسة والأدب. والأخ طارق يمارس الطب في إنجلترا، كما درج نابهة أطباء السودان منذ ان أنشئت مدرسة كتشنر الطبية في العام 1924م فيما أعتقد. وليس في هذا ما يدهش، إنما المدهش هو أنه الى جانب تنطسه في الطب، كلف بالتاريخ والأدب، على غير عادة جمهور الأطباء، وإن كان أطباء السودان قد رسموا لأنفسهم طريقاً مغايراً، فغزا نفر منهم ساحات الحياة الأخرى من أدب وسياسة ورياضة، يتقدمهم الرعيل الأول: علي بدري، والتيجاني الماحي، ودكتور حليم، ودكتور شداد «أول رئيس برلمان»، ثم انفتحت بعد ذلك الأبواب على مصاريعها، حتى ضاق بعض الناس بالأطباء لما رأوه في نشاطهم من تحشر. لكن الأخ طارق- لحسن حظه وحظ شعب السودان- ليس معنياً بالسياسة، بل أكثر همه بالمجتمع. ولئن عنى أكثر من عنوا بالتاريخ بتدوين أحداث السياسة والشجار حولها، فإن الأخ طارق اهتم بتدوين تاريخ الطب في السودان في الفترة الحديثة، أي -مع بداية الحكم الثنائي. وقد قاده همه في تدوين ذلك التاريخ الى أن أعثره على سيف السلطان إبراهيم قرض، وهي الرواية التي يرويها لنا هنا. وفي هذه الرواية ترد أسماء عديد من الأسر والشخصيات التي زحمت بكسبها الآفاق والتي تظهر بصماتها واضحة في تاريخ السودان. ومن الطريف أنني عندما ذكرت طرفاً من هذه الرواية للأخ علي عثمان محمد طه، نائب رئيس الجمهورية، وهو من أغزر أهل السياسة معرفة بالمجتمع السوداني وخباياه، أكد لي أن السيد الشريف يوسف الهندي كان حقاً مولعاً بإقتناء السيوف، فهل يصحح لنا آل الهندي هذه الحقيقة؟ ولا بد ان الطبيب البريطاني همفريز كانت له مكانة خاصة عند السيد الشريف الهندي ليمنحه هذا السيف الثمين. ندعوا للأخ طارق الهد ان يوفق الى إكمال كتابه عن تاريخ الطب، ولسيف السلطان إبراهيم ان يعود عزيزاً مكرماً الى بلده، وأن تُغمد كل السيوف المشهرة في دارفور اليوم، بل ان تصير تُحفاً تقتنى في أغمادها. د.غازي صلاح الدين العتباني ....... شهدت ثلاثينات وأربعينات القرن الماضي تخريج دفعات الرعيل الأول للأطباء السودانيين من مدرسة كتشنر الطبية، وكان من بين خريجي الدفعة الأولى في العام 1928م الدكتور علي بدري، الذي صار أول وزير للصحة في العام 1947م، ثم خلفه زميله في الدفعة الدكتور محمد أمين السيد في العام 1954م، أي قبل الاستقلال بعامين، تلى هؤلاء الرواد دكتور عبدالحليم محمد، وهو أول من نال عضوية كلية الأطباء الملكية في لندن في العام 1952م، أحد أساتذة علي بدري ومحمد أمين السيد وعبدالحليم محمد وزملائهم كان الدكتور البريطاني روي ميرفن همفريز الذي التحق بالمصلحة الطبية السودانية في العام 1920م والتي صارت من بعد الخدمات الطبية السودانية في العام 2291م. عمل د. همفريز في كل من عطبرة وود مدني قبل ان ينتقل الى الخرطوم حيث عمل محاضراً في مدرسة كتشنر الطبية، وبعدها صار كبير أطباء الباطنية في مستشفى الخرطوم المدني «القديم» في العام 1933م واستمر فيه حتى تقاعده عن العمل في السودان في العام 1944م. اشتهر د. همفريز كسائر رصفائه من الأطباء البريطانيين بالإنضباط والتفاني في العمل، وكان مميزاً كذلك بحسن الخلق والمعاملة بالاضافة الى تميزه العلمي والمهني، ولا غرو فهو خريج اكسفورد، وما أدراك ما أكسفورد. جمعت د. همفريز كذلك صداقة ومحبة بأعلام السياسة والمجتمع في الخرطوم وعلى رأسهم الشريف يوسف محمد الأمين الهندي والسيد عبدالرحمن المهدي والسيد علي الميرغني طيب الله ثراهم أجمعين. الشاهد في الأمر أن علاقته بالشريف الهندي كانت وطيدة وحميمة. وكان الشريف الهندي يكن لدكتور همفريز كل تقدير وامتنان مما حدا به أن يهدي له في العام 1944 «الموافق 1311 هجرية»، حين انتهاء فترة عمل الأخير في السودان، فرساً عربياً أصيلاً من خاصة خيوله اسمه «جنجلاس»، وربما «جن جلاس». لكن الهدية الأهم التي قدمها له الشريف يوسف الهندي، وهي موضوعنا في هذه المقالة، كانت سيف السلطان إبراهيم قرض سلطان دارفور ابن السلطان إبراهيم حسين ابن السلطان محمد الفضل وجد السلطان علي دينار آخر سلاطين الفور. ولعل من المناسب ان نذكر مداخلة تاريخية هنا، وهي ان السلطان إبراهيم قرض هو آخر سلاطين الفور إبان الحكم التركي المصري والذي قتل -رحمه الله- في العام 4781م في موقعة منواشي على سفوح جبل مرة، قبل أن تؤول دارفور بعدها الى الحكم التركي المصري ويصبح حاكمها رودلف سلاطين باشا من ذلك العام وحتى العا م1883م، حينما أصبحت دارفور جزءاً من الدولة المهدية. عاد الدكتور روي همفريز الى بريطانيا حيث عمل في مقاطعة قلو ستر شير في وسط انجلترا حتى تقاعده في العام 1960. وكان من وفاء الأساتذة علي بدري وعبدالحليم محمد وزملائهم ان حفظوا الود والمحبة والتوقير لأساتذتهم. وما تأبين علي بدري وعبدالحليم محمد لأحد أساتذتهم وهو الدكتور بول اسكويرز المتوفى في العام 1964م إلا درة من درر الأدب الرفيع. كما كانت كلمة د. حليم في وداع أستاذه روي همفريز التي ارتجلها في التكريم قبل سفر الأخير عائداً الى موطنه درة اخرى من درر الأدب الرصين واللطافة اللغوية السامية. وكما قال شوقي: قلم للمعلم ووفه التبجيلا كاد المعلم ان يكون رسولا حفظ د. عبدالحليم الود لأستاذه، وكان يبره بالزيارة والسؤال كل عام منذ اربعينات القرن الماضي وحتى وفاة الدكتور روي همفريز في العام 1991م عن عمر ناهز ال«98» عاماً. كان د. حليم يزور استاذه كل عام في بيته خارج أكسفورد. وبعد وفاة الدكتور همفريز حفظ الدكتور حليم الود لأبنائه من بعده ولم ينقطع عن زيارة الدكتور ميرفن همفريز الابن سنة واحدة، حتى آخر زيارة له الى بريطانيا في العام 2003م، حين أشرف الدكتور همفريز بنفسه على ترتيبات ترجل الدكتور حليم من القطار، والذي صار هو بدوره طاعناً في السن قد شارف المائة. لم يثنه ضعف البنية ان يستمر في نفحات البر الى ابن استاذه، هذا ما كان من شأن د. حليم في شأن استاذه ولا عجب، هؤلاء كانوا النفر الكريم من رواد الطب عندنا وحدث. «أولئك آبائي فجئني بمثلهم إذا جمعتنا يا جرير المجامع» في صيف العام الماضي زرت الدكتور ميرفن همفريز الابن في داره في ضاحية فارندون القريبة من اكسفورد منقباً وباحثاً عن إرث والده لتوثيق عهد مديد في تراثنا الطبي. لقد أكرمني الدكتور همفريز الابن ونحن في جلستنا تلك في ذلك الأصيل، وبينما كنا نتحادث إذا به يطلب الإذن لدقائق يعود بعدها حاملاً سيفاً سامقاً لم تنل منه السنون الطويلة ولم يزل غمده الجديد يحكي الكثير الخطر، وغلالة الحرير التي تتدلى من مقبضه تنبئ عن علو مكانة صاحبه، وضع الدكتور همفريز السيف جانباً وأعطاني وثيقة كتبت بخط اليد ووضعت بعناية في برواز زجاجي مزدوج، إذ كتبت الوثيقة بكلمات عربية مبينة في الباطن وترجمت في الظاهر الى اللغة الإنجليزية. تعلقت عيناي بين سطور الوثيقة الى تفاصيلها كالآتي:- «الشريف يوسف الهندي كافأ الدكتور همفريز سعادة مدير الإسبتالية الملكية بالحصان جنجلاس المولود بالخرطوم، وبسيف السلطان ابراهيم قرض ابن السلطان حسين ابن السلطان محمد الفاضل المقتول بواقعة منواشي المدفون بجامع منواشي، المحلَّى ببراشم الفضة وأخراسها وذرر الحرير في خدمته للشريف ولطفه به كما هي عادة الإنجليز». عندهت سألني الدكتور همفريز الابن عن أصل السف ومن هو السلطان ابراهيم قرض؟ شرحت له بالتفصيل عن مملكة دارفور، وكيف أُسست وكيف تم احتواؤها في إمبراطورية محمد علي باشا في السودان قبل المهدية، ثم عرجت على فترة حكم سلاطين باشا وما تم بشأنه إبان قيام المهدية وما تلى ذلك من أحداث جسام انتهاء بالغزو الانجليزي المصري، ثم عودة السلطان على دينار الى عرش آبائه وإنتهاء بمقتله في العام 6191م. أطرق عندها الدكتور همفريز الابن ملياً ثم علق بقوله: إن لهذا السيف قيمة تاريخية عظيمة وأنه من الأجدر أن يفكر فيما يفعله به، وسألني عن رأيي؟ فأجبته بأنه من الأفيد أن يهدي السيف إما الى متحف السودان القومي أو الى المتحف البريطاني في لندن. أجاب الدكتور بعد هنية أنه سيفكر في الأمر، وافترقنا على موعد. منذ أيام خلت عدت مرة أخرى الى بريطانيا زائراً واتصلت بالدكتور ميرفن همفريز للسلام والسؤال عن أحواله وصحته لا سيما وأنني قدعلمت أنه كان طريح الفراش بعد إنزلاق غضروفي حاد في الظهر، وتناقشنا حينها عما سيصير في أمر سيف السلطان ابراهيم قرض، فذكر لي أنه قرر أن يهدي السيف الى موطنه السودان فطربت لذلك أيما طرب وسعدت أيما سعادة لهذه اللفتة الكريمة وشكرت له حسن صنيعه. كذلك جزى الله خيراً الإخوة في وزارة الخارجية وفي سفارة السودان بلندن خاصة الرجل اللبق الحصيف الدكتور خالد المبارك بشأن الترتيبات التي سوف تكلل بأن يودع السيف في موطنه السودان.