كانت أم جعفر بن يحيى قد أرضعت الرشيد وكفلته لأن أمه ماتت عند مهده.. فكان الرشيد يشاورها مظهراً لإكرامها والتبرك برأيها. وكان آلى وهو في كفالتها ألا يحجبها ولا استشفعته لأحد إلا شفعها. وآلت هي ان لا دخلت عليه إلا مأذوناً لها.. ولا شفعت لأحد مقترف ذنباً.. كان الرشيد قد احتجب بعد قتل جعفر وحبس يحيى فطلبت الإذن عليه ومنت بوسائلها إليه فلم يأذن لها ولا أمر بشيء فيها. فلما طال ذلك بها خرجت كاشفة وجهها واضعة لثامها محتفية في مشيها حتى صارت بباب قصر الرشيد فدخل عبد الملك بن الفضل الحاجب فقال: ظئر أمير المؤمنين بالباب، «الظئر مرضعة ولد غيرها والعاطفة عليه» ووصف الحاجب حالتها بقوله: في حال تقلب شماتة الحاسد الى شفقة أم الواحد. فقال الرشيد: ويحك يا عبد الملك أوساعية؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين وحافية.. قال: ادخلها يا عبد الملك فرب كبد غذتها وكربة فرجتها وعورة سترتها.. فدخلت فلما نظر الرشيد إليها داخلة محتفية قام محتفياً حتى تلقاها بين عمد المجلس وأكب على تقبيل رأسها ومواضع ثدييها ثم اجلسها معه فقالت: أيعدو علينا الزمان ويجفونا خوفاً لك الاعوان ويحردك بنا البهتان وقد ربيتك في حجري وأخذت برضاعك الامان من عدوى ودهري؟ فقال لها: ما ذاك يا أم الرشيد؟ قالت: ظئرك يحيى وابوك بعد ابيك ولا اصفه بأكثر مما عرفه به امير المؤمنين من نصيحته واشفاقه عليه وتعرضه للحتف في شأن موسى اخيه قال لها: يا الرشيد أمر سبق وقضاء حُمَّ وغضب من الله نفذ. قالت: يا أمير المؤمنين «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب».. قال: صدقت فهذا مما لم يمحه الله، قالت: الغيب محجوب عن النبيين فكيف عنك يا أمير المؤمنين فأطرق ملياً ثم قال: وإذا المنية انشبت أظفارها الفيت كل تميمة لا تنفع قالت بغير رؤية: ما انا ليحيى بتميمة يا امير المؤمنين وقد قال الاول: اذا افتقرت الى الذخائر لم تجد ذخراً يكون كصالح الاعمال ثم مضت قائلة: هذا بعد قول الله عز وجل.. «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين».. فأطرق ملياً ثم قال يا أم الرشيد اقول: إذ انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد إليه بوجهٍ آخر الدهر تُقْبل فقالت: يا أمير المؤمنين وأقول: سَتَقْطع في الدنيا اذا ما قطعتني يمينك فانظر أيَّ كَفِّ تَبَدّل قال هارون: رضيت.. قالت فهبه لي يا أمير المؤمنين فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من ترك شيئاً لله لم يوجده الله لفقده». فأكب هارون مليا ثم رفع رأسه يقول: «ولله الأمر من قبل ومن بعد».. قالت: يا أمير المؤمنين: «ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم». واذكر يا أمير (أَلِيَّتك) «تعني قسمة» ما استشفعت الا شفعتني: قال: فاذكري يأم الرشيد آليتك ان لاشفعت لمقترف ذنباً فلما رأته صرح بمنعها ولاذ عن مطلبها أخرجت حُقَّاً من زمردة خضراء فوضعته بين يديه فقال الرشيد: ما هذا.. ففتحت عنه قفلاً من ذهب فاخرجت منه «خفضته» وذاوئبه وثناياه قد غمست جميع ذلك في المسك «وللمعنى: خفضة الصبي: ختنه والاكثر استعمالها للصبية واستعمال الختن للصبي» فقالت: يا أمير المؤمنين استشفع إليك واستعين بالله عليك وبما صار معي من كريم جسدك وطيب جوارحك ليحيى عبدك.. فأخذ هارون ذلك فلثمه ثم استعبر وبكي بكاء شديداً وبكى أهل المجلس ومرّ البشير إلى يحيى وهو لا يظن إلا ان البكاء رحمة له ورجوع عنه فلما أفاق الرشيد رمى جميع ذلك في الحق وقال لها: لحسن ما حفظت الوديعة قالت: وأهل للمكافأة انت يا امير المؤمنين فسكت واقفل الحق ودفعه إليها وقال: «إن الله يأمركم ان تؤدوا الامانات إلى أهلها» فقالت: والله يقول: «وإذا حكمتم بين الناس ان تحكموا بالعدل» ويقول «وأوفوا بعهد الله اذا عاهدتم» فقال: وما ذلك يا أم الرشيد؟؟.. قالت: أو ما اقسمت لي الا تحجبني ولا تمتهنني؟ قال: أحب يا أم الرشيد ان تشتريه مُحَكَّمَةً فيه.. قالت انصفت يا أمير المؤمنين وقد فعلت غير مستقبلة لك ولا راجعة عنك.. قال: بكم؟؟ قالت: برضاك عمن لم يسخطك.. قال: يا أم الرشيد ام الي عليك من الحق مثل الذي لهم؟.. قالت: بلى يا أمير المؤمنين انت اعز علىَّ وهم أحبُّ إلىّ قال: فتحكمي في تمنية بغيرهم.. قالت: بلى.. قَدَ وَهَبْتُكَهُ وجعلتك في حلِّ منه.. وقامت عنه وبقى مبهوتاً ما يحير لفظة.