أكثر من حديث وموقف ورد فعل، وتحرك في الخرطوم، أو جوبا أو واشنطن يشد الانتباه ويستدعي الالتفات، وبوجه خاص ما صدر من النائب الأول ورئيس حكومة الجنوب سلفاكير في 19سبتمبر 2010م بواشنطون، وقوله بعودة الحرب الأهلية بين الجنوب والشمال في حالة تأجيل الاستفتاء عن موعده المقرر إجراؤه في 9 يناير 2011م وتتم اعلانه المباشر بأنه سيصوت للانفصال وقبل اشهر اكد انه سيصوت للوحدة، فماذا سيحدث؟ هل وقوع الحرب اصبح لا جدال فيه؟ وقال الفريق سلفاكير: إن عدم تنفيذ قرار محكمة التحكيم الدائم بشأن ترسيم حدود أبيي ربما يقود الى النزاع «الحرب» مرة اخرى، وامام كتلة النواب السود بالكونغرس الأمريكي اعلن رفض مقترح تقاسم النفط مع الشمال عند الانفصال، «وان التاسع من يناير المقبل يمثل خطاً احمر»، «وضرورة اجراء استفتاء الجنوب وأبيي في موعده»، غلبت لهجة الحدة وحديث التحذير والتهديد وتجاوز نصوص اتفاقية السلام الشامل مما يعتبر تجاوزاً للحكمة ومطلوبات السياسة الرصينة، وبدا من المثابرة والدق المستمر من جانب غالبية قيادات الحركة الشعبية على الدفوف والطبول تهديداً ووعيداً وانذاراً «بالحرب»، و«الخط الأحمر» واعلان الانفصال كأنما هو تمهيد للحرب بالفعل او تخويف او محاولة لإدخال الرعب في نفوس الشماليين اذا لم تسر الأمور وتنقاد الاشياء الى الخطة المرسوم لها، وإلا فإن النيران والحرب واقعة لا محالة، مما يعكس بوضوح ان الذاكرة السياسية والعسكرية لقيادات الحركة الشعبية تفتقر تماما الى قراءة التاريخ أو استيعابه أو معرفته، وتغفل بسهو أو عمد ما يمثله الشمال، بحضارته وارثه وجسارته وجيشه، فلولاه لكان الجنوب السوداني نفسه الآن موزعاً بين قبائل دول الجوار، اثيوبيا، ويوغندا وكينيا طبقاً لسياسات الادارة البريطانية (1899- 1955م)، لقد حالت الحركة الوطنية في الشمال بينها وبين ذلك عبر مقاومتها للاستعمار وسياساته التي جعلت من الجنوب كله منطقة مقفولة ويكاد سكانه يتحركون في شوارع محدودة بحساب شديد حيث حظر عليهم الخروج والدخول، وفرضت عليهم العرى والبدائية التامة، واستطاعت الحركة الوطنية في الشمال فضح هذه السياسات الظالمة ضد المواطنين في الجنوب وقادت حملات توعية واسعة في اوروبا، وكشفت الامتهان الذي يمارسه الاستعمار بقوة القانون في الجنوب، والحركة الوطنية والصحافة السياسية السودانية قادت حملات التوعية التي اجبرت الادارة البريطانية على إلغاء قوانين المناطق المقفولة، ورفض انفصال الجنوب أو تذويب قبائله مع قبائل الدول المجاورة. والحركة الوطنية ونضالها في الشمال هو الذي أجبر الإدارة البريطانية على إعادة النظر في سياساتها وحساباتها بعد ان فشلت في ترويض القيادات الوطنية بادخالها السجون أو بالنفي أو بمنعها من مزاولة وممارسة حقوقها المشروعة في العمل والتعليم والانتقال، ودفعت الحركة الوطنية بالإدارة البريطانية الى طاولة المفاوضات مع الجانب المصري في نوفمبر 1952م بالقاهرة لتحقيق الصيغة السياسية ليتولى السودانيين حكم أنفسهم بدون وصاية وبدون تسلط أو تدخل وجعل مقاليد الأمور في ايديهم، بعد أن فشلت في السيطرة عليهم على مدى أكثر من خمسين سنة. وانتهت المفاوضات بتوقيع اتفاقية الحكم الذاتي وتقرير المصير للسودان بشماله وجنوبه في 12فبراير 1953م، والحركة الوطنية في الشمال ساندت اخوتها في الجنوب للترشح في أول برلمان منتخب مطلع 1954، وعندما انعقد أول برلمان وانتخب اول رئيس لحكومة وطنية الزعيم اسماعيل الازهري، وشكل الوزارة ضمت حكومته (3) وزراء من الجنوب بدون نصوص في إتفاقية أو دستور أو بروتوكولات باعتبار مشاركة الجنوب مسألة ضرورية لتأمين مشاركة ووحدة الوطن. وعندما وقع أول تمرد دموي في اغسطس 1955، وأراد الحاكم العام البريطاني اعلان حالة الطواريء واستدعاء قوات بريطانية من دول شرق أفريقيا وكينيا ويوغندا فإن الحكومة الوطنية رفضت تدخله برغم ما يتمتع به من صلاحيات خولتها له اتفاقية الحكم الذاتي باعتبار ان ما حدث في الجنوب شأن سوداني، وليس شأناً بريطانياً، وان جيش السودان قادر تماماً على السيطرة على الموقف وإعادة الأمور الى سيرها الطبيعي، وتراجع الحاكم العام البريطاني عن قراره، واستطاعت الحكومة الوطنية والجيش السوداني القوي الجسور بتنفيذ مهامه بكفاءة وهذا الجيش شهدت له القيادة العسكرية العليا في الحرب العالمية الثانية بأنه جيش نظامي منضبط وكفء وجرئ نفذ مهاماً عسكرية بدراية وجسارة واجبر القوات الفاشية على الانسحاب من اثيوبيا واريتريا وليبيا، وبالتالي فإنه كان قادراً على اخماد التمرد ومعالجة الأوضاع العسكرية على الوجه الصحيح في الجنوب. وعندما تحقق الاستقلال في أول يناير 1956، فإن أول مجلس للسيادة ضم «5» أعضاء من بينهم عضو مجلس السيادة السيد سرسيو ايرو. وسنمضي في التذكير، ولكن لابد من مقارنة بين ما قاله النائب الأول سلفاكير من تهديد وتحذير بالحرب بسبب الاستفتاء واعلانه مبكراً بالتصويت للانفصال، وما قاله الرئيس عمر البشير في مجلس الوزراء بأن الحكومة قبلت بإتفاقية السلام لوقف الحرب واحلال السلام، واذا حدث انفصال ستصاحبه حرب وسيكون هذا هو أسوأ السيناريوهات.