قدم هذا التقرير ضمن ما يربو عن تسع اوراق في ندوة دول الجوار السوداني واستفتاء تقرير مصير جنوب السودان، نظمها معهد أبحاث السلام بجامعة الخرطوم ومركز دراسات المجتمع في قاعة الصداقة يوم 2و3 اكتوبر الجاري .... خلفية تاريخية يوغندا لها تاريخ طويل من العلاقة مع جنوب السودان يعود الى ما قبل الفترة الاستعمارية. عدد مقدر من القبائل وخاصة الكاكوا ولوقبارا وانمادي والاشولي وجدت نفسها على كلا الجانبين من الحدود شعباً واحداً بتاريخ وإرث ثقافي مشترك. إضافة للقبائل عبر الحدود كانت غوندوكرو في جنوب السودان مركز نشاط المكتشفين الاوروبيين من أمثال صمويل بيكر. الجنود الذين جندهم أمين باشا في جنوب السودان في منتصف القرن التاسع عشر شكلوا لاحقاً اول مجموعة من الجيش اليوغندي بيادق الملك الافريقية في عام 1895م عندما تمردت. حتى عندما تمردوا فإنهم لم يعادوا الى السودان بل خصصت لهم اراض في لوممبو بيوغندا حيث استمروا في لعب دور فاعل في تاريخ يوغندا سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وخاصة عسكرياً. في العام 1914م انشأت المملكة المتحدة بموجب قانون الدولة الحدود بين السودان الانجلو المصري ويوغندا التي بموجبها حددت الحدود اليوغندية السودانية في قطاعين اثنين: 1/ من بحر الجبل غرباً الى مصب نهر الكونغو 2/ ومن بحيرة رودلف لبحر الجبل. وبسبب تحويل مديرية رودلف من يوغندا الى كينيا فقد تم تثبيت الحدود اليوغندية السودانية في العام 1926م كما نراها اليوم مثل غالبية الاقطار الافريقية خاصة كان (الاستعمار) ترك عدة قبائل ذات تواريخ وارث ثقافي مشتركة مقسمة بين القطرين. يمكن تتبع أزمة جنوب السودان للحدث الذي تلا حرب بريطانيا مع المهدية في القرن التاسع عشر. بعد الحرب كان على السياسة البريطانية حول السودان ان تخلق ثلاث مديريات (أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية) - كمديريات منفصلة في الشمال الاسلامي - العربي . في العام 1945م وبينما كانت الاقطار الافريقية في غمرة نضالها من أجل الاستقلال اقترحت بريطانيا ان يكون جنوب السودان جزءاً من يوغندا ولكن في العام 1946م تراجعت لندن عن اقتراحها نتيجة لضغوط من الخرطوم من اجل استقلال السودان الكامل. بريطانيا تعرضت ايضاً لضغوط من مصر التي كانت تأمل ان يتحد السودان المستقل مع مصر. هذا التحول في السياسة اصبح مؤسساً العام 1946م وفقد جنوب السودان فرصته ليصبح جزءاً من يوغندا وفقدت يوغندا فرصة الحيازة على جنوب السودان. يوغندا ما بعد الاستقلال وقضية جنوب السودان: نالت يوغندا الاستقلال في 9 أكتوبر 1962م بعد الاستقلال بفترة قصيرة اصبحت قضية جنوب السودان من إرث ما بعد الاستقلال أربعة عوامل اثرت على موقف يوغندا ازاء جنوب السودان. كان الاول قرب يوغندا الجغرافي من جنوب السودان وكان العامل الثاني هو الدين والثالث القبائل عبر الحدود والعامل الرابع النفوذ الخارجي وخاصة من اسرائيل والولايات المتحدة اللتين كانتا تعتبران موقع يوغندا استراتيجياً فيما يتعلق بمصالحها الاوسع في الاقليم. القرب الجغرافي: موقع يوغندا الجغرافي في علاقاتها مع السودان يجعل من الاستحالة التنصل من الشئون الداخلية في ذلك القطر. وحتى اذا قررت الحياد فان النزاع الداخلي في السودان يجعلها الوطن الطبيعي للاجئين واذا لم يتم التعامل مع هؤلاء اللاجئين بالوسيلة الصحيحة فأنهم قد يشكلون مصدراً للريبة المتبادلة بين الدولتين. وبالمثل فان النزاع الداخلي في يوغندا وخاصة في الاقليم الشمالي فان تدخل السودان في شئون يوغندا الداخلية غالباً لا يمكن التنصل منه. العامل الديني: (70%) من سكان يوغندا مسيحيون وبالتحديد فان التجمع الديني الأكبر في البلاد هم الكاثوليك الذين يشكلون نحو (45%) من سكان يوغندا. الديانة الكاثوليكية قوية في جنوب السودان، وفي سياق انهيار الدولة في شمال يوغندا وجنوب السودان فإن الكنيسة الكاثوليكية كانت مزودة ومهمة جداً للسلع الاجتماعية للقبائل. في صراع يعتقد على نطاق واسع انه يدور بين مسلمين عرب ومسيحيين فان اليوغنديين على الارجح يساندون المسيحيين في حق تقرير المصير. العامل الأثنى: عندما أعيد تحديد الحدود النهائية ليوغندا والسودان في العام 1956م فقد تم تقسيم عدة مجموعات إثنية عبر القطرين هذه القبائل شملت الكاكوا وانمادي واللوقبارا والاشولي وتوبوسا وديدنبقا حسب ادى ادبفيوي 1985م فان وجود الكاكوا في السودان كان عاملاً مهماً في السياسة الداخلية في ذلك القطر. فالكاكوا في يوغندا تضامنوا مع عشيرتهم في جنوب السودان لتشكيل جبهة افريقية سوداء ضد عرب الشمال. ثانياً هذه القبائل الحدودية آثرت بقدر كبير على موقف يوغندا ازاء قضية جنوب السودان. عندما تولى عيدي أمين السلطان في يوغندا وهو كاكوي الأصل فان التأييد السياسي والعسكري الذي ناله في جنوب السودان كان العامل الاساسي لبقائه في السلطة لفترة ثمانية أعوام. العامل الاسرائيلي: أسباب اهتمامات اسرائيل في يوغندا في اوائل الستينيات هي نفسها الاسباب في افريقيا عموماً. كانت اسرائيل تهدف لاختراق طوق البلدان العربية المعادية وفتح طرائق عبور للقارة خاصة شمال افريقيا. مكانة يوغندا الخاصة جزء من ذكريات بعيدة - كما تسمى ( خطة يوغندا) لتوطين اليهود في العام 1918م. يوغندا مهمة كذلك لطول حدودها مع جنوب السودان والتي كانت اسرائيل تعتبرها لاعباً ضرورياً في سياسة الشرق الاوسط كانت استراتيجية اسرائيل تحديداً في العام 1960م منع توحيد السودان ومصر كما كانت تدعو بعض النخبة السودانية وكانت يوغندا مهمة استراتيجياً في الصراع بهزيمة اتحاد مصر والسودان كما ان يوغندا هي منبع النيل الابيض الذي تعتمد عليه مصر. وللسيطرة على مصر ينبغي سيطرة يوغندا لتحقيق تلك الاهداف الاستراتيجية فان اسرائىل نفذت عدة نشاطات في الستينيات اثرت على علاقات يوغندا مع السودان عامة وجنوب السودان خاصة. هذه النشاطات شملت بين انشطة أخرى: انشأت اسرائيل قاعدة في شمال يوغندا وبدأت تدريب قوات تمرد اسبانيا التي اتخذت من اثيوبيا ملجأ لها. لتسهيل المساعدات اللوجستية لمتمردي الأنيانيا بينت الشركة الاسرائيلية هيرام رايفي طرقاً ومطاراً في أروا. اسرائيل بعثت عشرات المستشارين لتدريب قوات الأنيانيا على اسلحة المدفعية والمظلات والقوات الجوية. في العام 1960م جاءت في وسائل الاعلام العربية تقارير مفادها ان اسرائيل تقيم قواتها الجوية الخاصة في شمال يوغندا لشن هجوم على مصر والسودان اذا دعت الضرورة. بعد حرب الأيام الستة في يونيو 1967م أصبحت اسرائىل ممولة رئيسية لحركة انيانيا، ويعتقد ان غالبية الاسلحة التي استولت عليها اسرائيل من العرب خلال تلك الحرب نقلت الى الأنيانيا. مساعدات أبوتي لحركة التحرير الجنوبية والتغيير اللاحق لهذه السياسة: بسبب العوامل المذكورة اعلاه فابتداء من عام 1961م وحتى 1969م كان تأييد يوغندا لحركة التحرير في جنوب السودان سراً معروفاً وربما كان أول اجراء أبوتي هو محاولته لتوحيد المقاومة الجنوبية المتشظية لاكسابها القوة. الحكومة اليوغندية رتبت اجتماعات المنظمات السياسية في اوائل الستينيات. كان الهدف تكوين جبهة سياسية مشتركة في نوفمبر 1964م سمحت الحكومة اليوغندية بعقد اول مؤتمر عام حول السودان في كمبالا. وفي ذلك الاجتماع تم انتخاب أقرى جادين رئيساً وفي عام 1965م وبمساندة الحكومة اليوغندية عقدت غالبية تلك الاجتماعات في جنوب السودان. تغيير السياسة: بين عامي 1965 - 1969م تذبذبت حكومة أبوتي بين العمل لتسوية سلمية لنزاع جنوب السودان ومساندة السودان في جنوب السودان في عام 1969 وخاصة بعد انقلاب نميري في السودان تحولت سياسة يوغندا من تأييد لحركة أنيانيا الى تأييد جهود حكومة الخرطوم في اتجاه تسوية سياسية لمشكلة الجنوب أسباب عديدة ادت الى تغير السياسة والموقف: * المنافسة بين عيدي أمين وملتون أبوتي : اولاً كان أبوتي داخلياً يخشى من النفوذ المتنامي لأمين في الجيش اليوغندي وكان يعتقد ان أمين يجند مواطني جنوب السودان في الجيش اليوغندي بينما كان يعزز سلطته في يوغندا. الموجة الاشتراكية التي غمرت القارة الافريقية: بين عامي 1967 و1970م هبت موجة اشتراكية على القارة الافريقية فقد استولى نميري على السلطة بمساعدة الاشتراكيين في السودان - حتى المحاولة الانقلابية في عام 1971م عندما تخلى نميري عن الايدولوجية الاشتراكية وفي نفس الوقت اعلن أبوتي تحولاً ايدولوجياً كبيراً الى اليسار (بمثابة الرجل العادي) الذي يقال ان نميري كان قد اعجب به، الموقف الايدولوجي المشترك بين البلدين كان من المفترض ان يطغي على الاعتبارات الاخرى وخاصة الاثنية والدينية منها. قضية يوغندة: في عام 1966م كان أبوتي قد الغى الملكية وتبع ذلك فرض دستور جمهوري عام 1967م وأدت هذه الاجراءات الى مطالبة يوغندا بالانفصال فوجد أبوتي نفسه في مأزق خطير. بتأييد حق تقرير مصير جنوب السودان أو منع مثل هذه المطالب في يوغندا. * مبادرات نميري تجاه جنوب السودان: بينما كان أبوتي يعاني من ذلك المأزق وعندما يعد نميري بالسعي للحلول السياسية لمشكلة الجنوب وبعد انضمام العديد من مقاتلي الأنيانيا لحكومة الخرطوم - فقد قرر أبوتي ان استمراره لمساندة الانيانيا لا معنى له. * اعلان الاستقلال في عام 1968م اعلنت حكومة إيان سميت في روديسيا الاستقلال من جانب واحد. ومع ان دولاً افريقية عارضت مثل ذلك الاستقلال إلا أن بريطانيا استمرت في منح المساعدة العسكرية لروديسيا وجنوب افريقيا هذه السياسة اغضبت عدداً من الزعماء الافارقة وكان بينهم أبوتي وأدى ذلك إلى شعور بعدم الثقة بينهم والعالم الغربي عموماً - واسرائيل. ونتيجة للقضايا المذكورة أعلاه أصبحت الحكومة اليوغندية معادية بالاخص لاسرائيل ونشاطاتها في جنوب السودان. * بعد حرب الأيام الستة بدأ التصويت يوغندا في الاممالمتحدة والمنابر الدولية الأخرى يتحول ضد اسرائىل. * في العام 1969م سعى الجنرال زامير رئيس المخابرات الاسرائيلية للتزود بالوقود في يوغندا لشحن الاسلحة لمقاتلي الانيانيا، عارض ابوتي هذا الطلب رغم ان عيدي أمين القائد الاعلى للقوات اليوغندية عمل مع الاسرائيليين للتأكد من تلبية مطالبهم. في العام 1969م وصل رولف شتاينر المرتزق الالماني الغربي الذي كان قد حارب في بيافرا الى جانب المطالبين بانفصال الاقليم. وانضم الى حركة الانيانيا ولكن الحكومة اليوغندية تمكنت من اعتقاله وتسليمه الى حكومة الخرطوم. هذا التغيير في سياسة يوغندا ادى الى الاعتقاد ان اسرائىل لعبت دوراً مهماً في عملية الاطاحة بالرئيس أبوتي عام 1971م الشئ الوحيد الذي يؤسف عليه انه بعد طرد أبوتي من يوغندا وعندما حاول طلب مساعدة عسكرية من الحكومة السودانية لاسترداد سلطته في كمبالا رفضت الخرطوم الاستجابة لهذا الطلب واضطر أبوتي اللجوء الى تنزانيا. قسم العلوم السياسية والادارة العامة جامعة ماكريري - كمبالا