مرت بالأمس الذكرى الرابعة لرحيل الشريف زين العابدين الهندي «طيب الله ثراه».. وهي ذكرى جديرة بالوقوف عندها طويلاً والترحم على رجل الديمقراطية الذي أحدث اختراقاً كثيراً في سياج الحكومة التي كانت تقبض على الأمور بيد من حديد. مبادرة الشريف التي كان للعم التيجاني محمد إبراهيم دور مهم فيها.. وفي رعايتها.. وفي عودة الشريف الى السودان.. والى توسيع هامش الديمقراطية والحريات. نحيي ذكرى هذا الرجل.. الوطني والديمقراطي الأول. والشريف يذكر له أهل السودان وبالذات أهل السياسة والأحزاب.. أن مبادرته الشهيرة التي أعادته للسودان خلفت مناخاً ديمقراطياً وهامشاً واسعاً، لم نكن نعيشه في بداية الإنقاذ، وقد لعب في ذلك الأمر العم التيجاني محمد إبراهيم رجل الأعمال المعروف وأقرب المقربين لبيت آل الهندي وعلى رأسهم الشريف حسين ثم الشريف زين العابدين، ولعب العم التيجاني دوراً مهماً في انفتاح النظام على القوى السياسية.. وبسط القبضة الحديدية التي كانت من أهم سمات النظام في بدايات سنواته. وكان موقف الشريف الوطني واضحاً أمام ما يسمى بالديمقراطية الثالثة.. ولا ينسى له أهل السودان ذلك الخطاب التاريخي في الجمعية التأسيسية الذي فصل فيه أزمة الحكم ونعى فيه الديمقراطية.. ثم غادر الى الصومال وبعدها عادت الديمقراطية للسودان. وأذكر أنني التقيته قبل خطابه التاريخي في الجمعية التأسيسية.. وأجريت معه حواراً سياسياً ساخناً.. نشرته مجلة «الوطن العربي» التي كانت تصدر بباريس وكنت مراسلاً لها في الخرطوم.. الحديث الخطير نشر بالعدد الذي صادف وصوله ليلة 29 يونيو 1989م.. وحُجز بالمطار فجر الثلاثين من يونيو مع البيان رقم واحد.. وكانت صورة الغلاف للشريف زين العابدين وكل خطوط الغلاف، وأجريت الحديث في مزرعته بحلة كوكو.. وكان يجلس في عنقريب هبابي على الحبل ممسكاً بكتاب.. وكان معه الراحل بشير أرتولي ومحمد علي الحلاوي الذي كنت أقول انه حزب أمة جناح الشريف وكان معي صديقي طلحة الشفيع طلحة. من حديثه الملتهب: اللواء يونس محمود.. الذي كان يتحدث صباح كل يوم من إذاعة أم درمان حديثاً سياسياً ساخناً كان يقرأ.. من الحوار فقرات يومياً.. وبعد الإنقلاب بنحو شهر غادرت الخرطوم الى القاهرة.. واتصلت بالشريف زين العابدين الذي كان يقيم هناك.. وتواعدنا على اللقاء في مطعم ريش وهو مطعم معظم رواده من الأدباء والشعراء.. كان على رأسهم محمد الفيتوري ومحمد عفيفي مطر ومحمود درويش عندما يأتي الى القاهرة وعدد كبير آخر.. جاءني حاملاً معه مجلة الوطن العربي.. وقال لي هذه شهادة تبرئة ذمة منحتني لها أنت وأشكرك كثيراً عليها. الشريف زين العابدين كان سعيداً بتحقق نبوءته بزوال الديمقراطية الثالثة لعدم جدية الحاكمين القائمين على أمرها.. وقال لي ما قلت ليك لو جاء كلب ليخطف الديمقراطية لن يجد من يقول له «جر». وأذكر في ذلك اللقاء أنني سألته: لماذا لا تداوم في وزارة الخارجية يومياً مثل كل الوزراء.. ولماذا توقفت في الأيام الأخيرة من الذهاب اليها؟ أخذ الرجل نفساً عميقاً وسكبه في جوفه وأخرجه بحسرة.. ثم قال بانفعال: يا أستاذ عاوزني أمشي الوزارة.. وأنا كل يوم خارج من منزلنا أرى صفوف النساء يحملن الجرادل بحثاً عن الماء.. وأرى الصفوف الطويلة في محطات البنزين وهي تنتظر لأيام من أجل جالونات فقط من البنزين.. كيف استطيع الجلوس في مكتبي وتمر أمام عيني تلك المناظر والمعاناة التي يعاني منها شعبنا؟ ثم قال أرجول أن لا تكتب هذا.. حتى لا يفهمه أعدائي بأنه مزايدة عليهم. نعم الشريف زين العابدين كان نموذجاً مصغراً من شقيقه الشريف حسين.. رغم تفوق ذلك الرجل على كل أقرانه.. وكان أذكى الأذكياء.. وسياسياً محنكاً وصاحب كاريزما طاغية. الشريف زين العابدين قبل تنفيذه قراره بالعودة الى السودان وتنشيط حزبه ضمن الأحزاب السودانية حاول جاهداً ان يقنع قيادة الحزب الإتحادي الديمقراطي.. ولكنه قوبل بهجوم عنيف من بعض المزايدين.. والذين وجدوا مصالحهم من النضال في المنافي والفنادق الفاخرة.. وعاد الى الخرطوم وأسس حزبه وبدأ في ترتيبات لعقد مؤتمر عام للحزب الذي كان حدثاً تاريخياً. وانضم الى قيادة الحزب كوكبة رائعة من الشباب الذين رباهم الشريف حسين سياسياً وانضموا للحزب. والشريف رجل لا يؤمن بالنضال من خارج حدود الوطن.. وكان يقول كل من يقدم له دعماً سيقدم له فواتيره عندما تصل الى السلطة، لذلك كان بعيداً عن المحاور السياسية العربية في القضية التي رفعها ضد الاستاذ علي محمود حسنين حول حديث حسنين بأن الشريف اجتمع بالعميد آنذاك عمر حسن أحمد البشير في استراحة أحمد عبدالقيوم بكوستي قبل تنفيذ الإنقلاب.. طلبني الاستاذ علي محمود كشاهد في الإتهام.. وكان مستنده مجلة الوطن العربي الذي نشرته حواري معه قبل «30 يونيو 9891م» وسألني عن إجابة الشريف لسؤالي له عن مذكرة الجيش «الشهيرة» وكيف يراها؟ وكانت إجابة الشريف: ليس مطلوباً من الجيش ان يكتب مذكرات.. وإنما يجب ان يكون حديثه بأشياء لها دوي. وفهم من إجابة الشريف أنها دعوة للإنقلاب.. وأنه يعلم بأن الإنقلاب قادم. والغريب أن المجلة سألت الشريف عن ذلك الحوار في جلسة سابقة فأنكره وقال إنه لا يعرفني.. وبعد خروجه من المحكمة ومن داخل سيارة العم التيجاني محمد إبراهيم إتصل بي العم التيجاني.. وقال لي أرجو أن تتناول معي الغداء اليوم بمنزلي.. وسألته على الفور هل معك الشريف زين العابدين؟ ضحك الرجل وقال لي: نعم. وذهبت الى منزل العم التيجاني.. ووجدت الشريف كعادته ممسكاً بكتاب.. ما أن رآني حتى نهض وسلم على رأسي وأجلسني بجواره.. وقال لي آسف لقد حدث التباس بينك وبين الأخ سننادة. قلت له هذا هو الحوار.. وبدأ يقرأ فيه وكانت المفاجأة.. هل ممكن تعيد نشره؟قلت له نعم. وقال لي أنشره في عدد الغد وقد كان. الشريف كان رجلاً شجاعاً.. رحمه الله رحمة واسعة.