من أبلغ العناوين التي قرأتها في الأيام الأخيرة عنوان قرأته يوم الأحد الماضي (24/2) في موقع (بي بي سي) يقول: (الانتخابات الباكستانية: مشرف يخسر وواشنطن تدفع الثمن). وقراءتي للخبر تقول إن انغماس الولاياتالمتحدة في سياسة الأطراف البعيدة يصل إلى مداه الأقصى بحيث تتقمص مواقف الطرف الذي تسانده لدرجة أنها تشاركه النصر إذا انتصر والهزيمة إذا انهزم. تنغمس بحيث تصبح كواحد من اللاعبين المحليين : تتبنى كل رؤاه، ولا تمنع نفسها من الوقوع في كل أخطائه، ثم تدفع ثمن هذه الأخطاء. في باكستان قد يجد كثير من المحللين أسبابا مقنعة تدفع الإدارة الأمريكية لتبني مواقف الرئيس برويز مشرف من الألف إلى الياء، ويكاد هؤلاء أن يتفقوا على أن قلق الولاياتالمتحدة على سقوط الحزب الداعم لمشرف ربما كان أكبر من قلق صاحب الشأن نفسه، أي الرئيس مشرف. قلق مشرف ربما كان على ما سيفقد من امتيازات الحكم وما يدور في فلكها من صلاحيات ومنافع، بينما قلق واشنطن ينصب على أشياء أكبر. فباكستان، على قول راجح، تؤوي في مقاطعاتها الشرقية أسامة بن لادن والإدارة العليا لتنظيم القاعدة، وفي غربها تقبع إيران التي تؤوي هواجس أمريكية عميقة حول أسلحة نووية تعمل إيران على إنتاجها، وفي داخلها قنابل نووية تخشى الولاياتالمتحدة أن تؤول أزرارها إلى جهة ما قد تنتجها (الدربكة) السياسية الحادثة الآن في باكستان. ولكن هذا التحليل فيه نظر، لأن الإدارة الأمريكية تنقل تجربة باكستان إلى مواقع أخرى. في لبنان تتصرف الآن وكأنها طرف من أطراف أزمتها الحالية، وهو ما فعلته في أفغانستان وفي العراق حيث تحالفت مع أطراف داخلية لدرجة أنها ألغت رصيدها في التفكير المنطقي، وهو ما تفعله الآن في الصومال. نحن نعرف أن الصراعات المحلية في دول العالم الثالث في كثير من الأحيان غير عقلانية وغير راشدة، فإذا انغمست فيها الولاياتالمتحدة فإما أن تتصرف بعقل وموضوعية كما تتصرف في قضايا العالم الأول، وفي هذه الحالة ستبدو في نظر أصدقائها في البلد المعين وكأنها متعالية وغير صادقة، وإما أن تسلك سلوك العالم الثالث .. وهنا تبدو المشكلة. في السودان، في عام 1998، جنبت الإدارة الأمريكية تقارير استخباراتها جانبا واستمعت لتقارير ملفقة قدمتها المعارضة، وتصرفت على أساس هذه التقارير وقصفت مصنع الشفاء. ثم ظهر أن الانغماس لهذه الدرجات البعيدة مليء بالحسابات الشخصية والتقديرات الخاطئة، كما هي سياسة العالم الثالث. وكانت النتيجة أن قصفت مصنعا ينتج الأدوية البشرية والحيوانية في بلد فقير هو في أمس الحاجة إليها. وبعد .. كان من الممكن أن نعتبر تقديرات الإدارة الأمريكيةلباكستان استثناء لظروف باكستان الخاصة، لكن العالم كله يضج الآن من انغماس الإدارة الأمريكية في شئونه الداخلية، وخطورة التدخل الأمريكي أن أي دولة طرفية لا تستطيع أن تعتبرها طرفا داخليا، فهي الأكبر والأقوى .. وهي سيدة العالم.