على رأسه نصف الأصلع، وضع المبعوث الأمريكي الأسبق للسودان أندرو ناتسيوس طاقية جديدة غير تلك التي كان يضعها في السابق عندما يتحدّث في الشأن السوداني، وبها، نبّه إلى أن د. حسن الترابي الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي يُفكر في انقلاب جديد قال ناتسيوس إنّ أجهزة الاستخبارات الإقليمية تؤمن بأن الترابي يُعِد له!! تلك، كانت طاقية محض أكاديمية، فلم يعد الأمر بالنسبة له كما كان على أيام إبتعاثه من الإدارة الأمريكية على أيام رئيسه المنصرف جورج بوش، فهو الآن يعمل مُحاضراً في جامعة جورج تاون بواشنطن. لكن ذلك لم يمنعه فيما يبدو من أن يُطلق تصريحاته بهمة تفوق همة المبعوث الحالي غرايشون وكأنه لم يزل بعد داخل الخدمة. ...... ففي حوار مع موقع «سودان تربيون» نشره أواخر الأسبوع الماضي، بعث ناتسيوس برسائل سياسية للعديد من الجهات، فيما أبقى أُخرى بلا عنوان، غير أن حديثه عن انقلاب الترابي المحتمل كان لافتاً من جهة أنّه أعاد إلى الأذهان ذكرى انقلاب قديم كان الترابي وليس غيره هو عرابه والممسك بخيوط النظام كافة الذي أفضى إليه قبل أن تنسرب تلك الخيوط - ذات رابع من رمضان - كحبيبات الرمل من بين يديه. الحديث عن احتمالية أن يقوم الترابي بانقلاب مجدداً، قاله ناتسيوس في مدينة جوبا التي زارها لأسبابٍ غامضةٍ في الأسابيع الفائتة، وبعد أن رجع إلى واشنطن، قدم ناتسيوس في الأيام القليلة الماضية محاضرة قيل إنها محضورة بجامعة جورج تاون. ومنها رشحت أحاديث كثيرة في الشأن السوداني كان بعضها بحاجة لإجراء عملية فلترة قبل أن تجدر بالنشر. لكن ثمة سلك ناظم بين ما قاله ناتسيوس بجوبا، وبين ما قاله في واشطن حيث مثل المؤتمر الشعبي وزعيمه الترابي قاسماً مشتركاً بين قوليه. حيث اتهم في محاضرته من وصفهم بالمخلصين للترابي داخل المؤتمر الوطني بالسعي لعرقلة الاستفتاء والعمل على تأجيله. وفي تناقضٍ واضحٍ، أشار ناتسيوس مرة إلى أن الترابي عيّن نصف قيادة الجيش الحاليين، ومرة أخرى قال انه يمتلك خمسين ضابطاً في الجيش قال إنهم تواطؤا للسماح لقوات العدل والمساواة بالوصول في مايو من العام قبل الماضي الى أم درمان. ومهما يكن من وهن فرضية احتمال أن يقوم الترابي بانقلاب، إلاّ أنّه ربما كان من المناسب هنا، التساؤل حول ما إذا كان ذلك الحديث قابلاً للنزول من رأس ناتسيوس لأرض الواقع؟، والتساؤل كذلك عن إمكانية أن ينقلب الترابي عَلى النظام الدستوري وينفض يده من كل شئ بحجة أنه لم يكن أصلاً جزءاً من نيفاشا أو الدستور أو أيِّ شئ يجعله يحجم عن هكذا انقلاب؟. ويرى البعض انّ الترابي حتى وإنْ كان جزءاً من كل ذلك، فلا يستبعد أبداً أن يحتفظ بالانقلاب كواحدٍ من الخيارات المجربة وذلك إنطلاقاً من حيثيات ماضوية، فالرجل الذي انقض على الديمقراطية بعد أن وقّع على ميثاق حمايتها في العام 1989م، يمكنه أن يفعلها مرة أخرى أو يُفكِّر على الأقل في ذلك بطريقة أكثر ذكاءً من تلك التي قال فيها قولته ذائعة الصيت: (اذهب إلى القصر رئيساً، وسوف اذهب إلى السجن حبيساً). لكنّ الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي كمال عمر المحامي وصف حديث ناتسيوس بأنه سخيف ويفتقد إلى السند السياسي، ورجح كمال في حديثه مع «الرأي العام» أن ما قاله ناتسيوس قصد به استهداف الخط الإسلامي الأصيل في الحركة الإسلامية والمؤتمر الشعبي، واستهداف العلاقة المتينة بين الشعبي والشعبية، أو إضعافها بمثل هذه الأحاديث التي لا تستند برأيه على حيثيات واقعية بهدف قطع أواصر التواصل بين الشمال والجنوب، والجنوب والإسلام نهائياً إذا حَدَثَ انفصال للجنوب. وفيما نوّه إلى تبرؤهم في الشعبي من أخطاء النظام في مرحلة ما بعد المفاصلة، سخر كمال عمر بشدة من حديث ناتسيوس عن تفكير الترابي في قلب الطاولة عبر انقلاب جديد، وقال: نحن قلبنا الطاولة سياسياً بالفعل عندما طرحنا قضية متعلقة بأزمة السودان كلها في نظامنا الأساسي وسنعمل على أن نأتي بمشروعنا عبر الشعب السوداني. وزاد: (قلب الطاولة بطريقة عسكرية كالتي جبنا بها الإنقاذ، تاني ما بنعملا). قريباً من ذلك، يرى المحلل السياسي د. إبراهيم ميرغني أنّ الترابي على درجة من الذكاء تجعله لا يُقدم على تكرار الخطأ مرتين، فهو لم يعد يثق في العسكريين، ولا يمل تكرار ان من أخطاء الحركة الإسلامية التي يختزلها في شخصه، إدخالها للعسكريين في السلطة. ونوّه ميرغني إلى أنّ الترابي يشعر بمرارة شديدة تجاه تلامذته السابقين الذين دفعهم إلى الحكم ودفعوه إلى خارجه. وتابع: إنّ إحساس الترابي بالغبن من الممكن أن يجعله يُقدِم على أعمال، لكن ليس من داخل الجيش وإنما من خارجه كأن يتم ذلك عبر حركة العدل والمساواة مثلاً. ومهما يكن من أمر، فمن الصعب التكهن بوجهة الترابي المقبلة، فالبعض يرى أن زمن الانقلابات قد ولّى، وأن هنالك تهويلاً من قدرات (الشيخ) الذي لم يعد قادراً على قلب طاولة طعام. لكن هذا لا يمنع من التريث قليلاً، فالأيام، أو بالأحرى المقبلة وحدها كفيلة باختبار صحة مقولة ناتسيوس عن انقلاب الترابي، وصحة توبة الترابي من الانقلابات.