وضع الكونغرس والإدارة سقفا عاليا جدا لأنفسهم فيما يخص التعامل مع قضية دارفور بتصنيفها على إنها قضية إبادة جماعية.. الإدارة تحديدا عانت من هذا السقف بشكل عملي، ذلك أنها كانت تدرك في قرارة نفسها أن الأمر ليس إبادة وإنما هو القرار السياسي الذي فرض ذلك، ولكن عليها في ذات الوقت أن تتعامل مع تعقيدات التصنيف السياسية والقانونية.. الأممالمتحدة حينما نفت وقوع الإبادة الجماعية رفعت عن الإدارة حرج التزامات ميثاق منع ومعاقبة الإبادة الجماعية.. تبقت إذن الحسابات السياسية الداخلية.. إن تعاملها مع حكومة متهمة بإرتكاب إبادة جماعية ظل يلقى تنديدا واستنكارا داخليا ًليس فقط من المجموعات التي سعت لدمغ الحكومة بتلك التهمة، ولكن من قطاع عريض من الرأي العام الذي تمت تعبئته وتأليبه على الحكومة السودانية بإقناعه بوقوع الإبادة.. وبالتالي ظلت الإدارة «إدارة بوش وقتها والآن إدارة أوباما» تحت سهام الانتقاد والترصد من دوائر ناشطي دارفور في أية خطوة عقلانية تخطوها تجاه الحكومة السودانية إذ أن أول ما تواجهه هو سؤال كيف يتسنى لها أن تفعل ذلك مع حكومة مصنفة على ذلك النحو؟؟.. لعل أبرز جوانب هذا التنافض وضوحا لدى الإدارة تظهر في حالة المبعوثين الخاصين الذين يعهد إليهم الرئيس بمعالجة قضية السودان إذ أنهم ما أن يبدأوا في تملك الحقائق على الأرض حتى يفاجأوا بأن كثيرا من الشعارات التي ظلوا يسمعونها داخل أمريكا عن الوضع في السودان إنما هي فعلا «شعارات» يجافيها الواقع الذي يلامسون حقيقته بأنفسهم الآن.. ولكن لا يمكن لأي سياسي أن يتجرأ ويقول أن إعلان الإبادة من أساسه كان خطأا أو أنه كان قرارا سياسياً ولكن أضعف الإيمان فليقل أن ما يحدث الآن ليس إبادة وليدعم ذلك بإحصاءات الأممالمتحدة وتقاريرها.. ولكن، ذلك أيضا لا يضمن له السلامة من سهام الناشطين واستهدافهم.. السفير ديفيد شِن قال لأعضاء الكونغرس أن عدد الذين ماتوا في كل عام 2008 بسبب العنف في دارفور حسب تقرير يوناميد UNAMID كان 1550 منهم 500 من المدنيين، 400 كانوا من المقاتلين و640 ماتوا في نزاعات بين القبائل بعضها البعض، فأين الإبادة الجماعية المستمرة؟ إن ما يواجهه غريشون اليوم يشابه إلى حد كبير ما واجهه السيد أندرو ناتسيوس مبعوث الرئيس الامريكي السابق بوش والذي كان إلى قبيل تعيينه مبعوثا خاصا للرئيس من أشرس المعادين للحكومة السودانية.. بيد أنه بعد تعيينه مبعوثا خاصا في سبتمبر من العام 2006 والأزمة آنئذ في أوجها بين السودان والأممالمتحدة في أعقاب رفض السودان قرار مجلس الأمن 1706 الداعي إلى إرسال قوات حفظ سلام دولية إلى دارفور، وبعد أن بدأ يزور المنطقة بشكل مكثف ويتملك المعلومات من مصادرها عن حقيقة ما يحدث، صار حكمه على التطورات السياسية في السودان يبتعد شيئاً فشيئا عن شعارات «ناشطي دارفور» المحفوظة إلى أن بلغ حد رفض توصيف ما يحدث في دارفور بالإبادة الجماعية أيضاً.. وقد ثارت زوبعة شبيهة بالزوبعة الحالية تجاه غريشون حينما ذكر ناتسيوس في مطلع العام 2007 في محاضرة له في جامعة جورج تاون التي يعمل بها محاضرا «أن وصف ما يحدث في دارفور بالإبادة الجماعية هو في حقيقة الأمر مخالف لحقائق الوضع على الارض الآن».. وقد لاحقت ناتسيوس الإدانات واللعنات من مجموعة الناشطين، ولعل من أشهر ما تعرض له من محاصرات ما فعله معه السناتور مينينديز في جلسة استماع في أبريل 2007 حينما احتد معه في الحديث إلى حد كان لافتا.. أنظر معي إلى هذا الحوار الذي دار بين ناتسيوس والسناتور مينينديز في تلك الجلسة: السناتور مينينديز: هل لك أن تخبر هذه اللجنة عن ما هو الوضع الآن في دارفور؟ هل هي إبادة جماعية؟ ناتسيوس: في دارفور حاليا أيها السناتور اقتتال ضئيل للغاية... السناتور مينينديز [مقاطعاً]: هذا لا يعني أن الوضع هناك ليس إبادة جماعية... ناتسيوس: هلا تركتني أكمل حديثي... السناتور مينينديز: السؤال هو هل تعتبر.... ناتسيوس [محاولاً مواصلة حديثه]: أيها السناتور.. السناتور مينينديز [مصرا على المقاطعة]: أجب على سؤالي... ناتسيوس: أنا أجيب الآن على سؤالك.... السناتور مينينديز: إن الوقت المتاح لي محدود أيها المبعوث.. وبالتالي أريد منك إجابة قاطعة على سؤالي... ناتسيوس [مقاطعا]: أنا أجيب الآن على سؤالك... السناتور مينينديز: مهلا.. لا يمكنك الإجابة على سؤالي إن لم تدعني أكمله لتسمعه.. هل تعتبر الوضع الماثل الآن في دارفور إبادة جماعية؟ أجبني بنعم أو لا.. ناتسيوس: أنت فقط... السناتور مينينديز [مقاطعا]: نعم أم لا؟ ناتسيوس: أيها السناتور، فضلاً.. إن ما قرأته قبل قليل على اللجنة لم يحدث في دارفور بل في تشاد... السناتور مينينديز [مقاطعا]: أنا لم أشر في سؤالي إلى ما قرأته قبل قليل.. أنا فقط أسألك هل الإجابة على سؤالي نعم أم لا؟ ناتسيوس: إن هناك عنفاً ضئيلا للغاية الآن في دارفور.. السناتور مينينديز [مقاطعا]: أيها السفير، ما هو الصعب في سؤالي هذا؟ ما الذي لا تفهمه في سؤالي؟ ناتسيوس: أيها السناتور لقد أجبت لتوي على سؤالك.. السناتور مينينديز: هل الوضع الحالي في دارفور هو إبادة جماعية مستمرة؟ أجبني بنعم أو لا؟ ناتسيوس: أيها السناتور، إن هناك اقتتالا ضئيلا للغاية يدور الآن بين الحكومة والمتمردين والضحايا المدنيون عددهم قليل جدا حالياً في دارفور.. لقد أجبت على سؤالك.. السناتور مينينديز: ايها السناتور أنا لم أسألك عن الاقتتال المتضائل، بل سؤالي عما إن كان الوضع في دارفور الآن هو إبادة جماعية... نعم أم لا؟.. ناتسيوس: إن الوضع في دارفور حاليا هش للغاية.. وهكذا استمر الحوار على هذا المنوال دون ان يرضخ ناتسيوس لهذه «الأجواء المكارثية» ويجب بنعم أو بلا.. إن ناتسيوس لا يزال يستدعي بمرارة كيف حوصر وكيف أعيقت مهمته من قبل الكونغرس والناشطين وهاهو يذكر ذلك مباشرة في ندوة عن دارفور قدمها في جامعة جورج تاون في نهايات مارس من هذا العام موضحاً أنه كمبعوث خاص وقتها كان قد توصل إلى اتفاق مع الحكومة السودانية ولكن أعضاء الكونغرس لم يسمحوا له أن يعقد أي اتفاق مع الحكومة السودانية.. وقال ناتسيوس بمرارة شديدة أنه يرجو الا يفعلوا ذات الامر مع غريشون.. ولعل من إفادات ناتسيوس اللافتة في تلك الندوة تأكيده بأن التعاطي مع الحكومة السودانية هو الذي يفضي إلى تحقيق نتائج حسب تجربته في هذا المضمار ذاكرا بأن « التعهدات التي قدمها لي البشير نفذها».. ولكنه طوال فترته كمبعوث لم يستطع أن ينطق مثل هذه العبارة.. إن مجموعة «ناشطي دارفور» في الولاياتالمتحدة أصبحت مجموعة راسخة البنيان وقوية الدعائم وموفورة التمويل.. وهي، كما هو معلوم، مدعومة من اللوبي الداعم لإسرائيل الذي تبنى القضية ورمى بثقله خلفها مما أكسبها ثقلا وبعدا سياسيا في دوائر اتخاذ القرار الأمريكي التي يتمتع فيها اللوبي الداعم لإسرائيل بنفوذ لا يقاوم.. ولقد نجحت المجموعة في تعبئة الرأي العام وشحنه بقوة ضد الحكومة السودانية بشكل يجعل أي عضو كونغرس يفكر مرتين قبل إظهار موقف مخالف خوفا على أصوات ناخبيه.. إنه أشبه بالإرهاب الفكري. منظمة «شبكة التدخل لمنع الإبادة الجماعية» Genocide Intervention Network تقوم برصد نشاط كل أعضاء الكونغرس في قضية دارفور ال 535 بمنحهم تقييما كتقييم درجات الامتحان [A+, A, B+. B] والتقييم منشور على الانترنت على الموقع التالي: http://www.darfurscores.org/ حيث تحسب لكل منهم بيانات استنكاره وشجبه للحكومة، تبنيه لقرارات الكونغرس تجاه دارفور، مشاركته في مظاهرات تحالف دارفور وما إلى ذلك لإصدار التقييم الكلي حسب هذه الجهود. وبالتالي فكلهم يسعون للحصول على التقييم الأعلى [A+]. أما إن كان التقييم ضعيفا فتدعو المنظمة ناخبي دائرته إلى إرسال عرائض له لتنبيهه إلى ضرورة «شد حيله» قليلا في قضية دارفور وتذكيره بأنهم يرصدون.. فتأمل أي إرهاب وأي ابتزاز يمارسون عليهم؟ السناتور جون كيري في مستهل جلسة الاستماع بدأ المداولات بعبارة هامة صاغها بعناية وموازنات واضحة: «لقد عدت من السودان وأنا مقتنع بالحاجة إلى بناء إطار إستراتيجي أكبر يتجاوز بنا المواقف المبسطة مثل سياسة العصا والجزرة، أو النظر إلى الوضع في إاطار الجنوب والشمال مقابل دارفور.. بدلا عن ذلك نحتاج إلى استرايتجية شاملة للسودان ككل وذات أوجه متعددة ومتعددة هذه يجدها البعض مخيفة» [حسب تعبيره].. إذن فالرجل أيضا يريد أن يقول شيئا مختلفا ولكن بحذر.. تبقى الحقيقة أن مجموعة «ناشطي دارفور» لا ترغب في إيجاد أية حلول لقضية دارفور ذلك أنه طالما كانت هذه القضية حية ومستمرة، طالما استمرت من الجهة الأخرى أنشطتهم التي أصبحت صنعة لكثيرين منهم.. ولك أن تتعجب ماذا سيصنع هؤلاء لو تم حل القضية خصوصا وأن بعضهم ركب القضية لتلميع نفسه ليصبح من أعلام المجتمع الأمريكي. ولك أن تعلم عزيزي القاريء أنه تدفع لبعضهم مقابل تقديم ندوة واحدة عن دارفور أو المشاركة في مؤتمر ما الآلاف من الدولارات نظير تلك المشاركة فلم السعي أصلاً والتفكير بحل المشكلة وهي تبيض ذهباً.. هؤلاء في سعيهم المحموم للحفاظ على زخم قضية دارفور وإبقاء جذوتها الشعبية والإعلامية على النحو الذي وضعوه في مخيلة الشعب الأمريكي، لن يقبلوا بأي مسعى لتغيير أي جانب من جوانب هذه الصورة سواء كان من غريشون أو غيره، وسيستميتون في وأد مثل هذا السعي في مهده حتى لا تُهدد بضاعتهم الرائجة التي لا تجد من يجروء على منافستها وإن أراد أحد أن يفعل فليستعد لتقبل مصير ناتسيوس.. ترى إلى أي حد سيصمد غريشون أمام هؤلاء وماذا يدبرون له الآن والرجل لا يزال بعد في شهوره الأولى من مهمته الصعبة خاصة وأن قلوب بعض زملائه في الإدارة مع ناشطي دارفور وهؤلاء وأولئك بدون شك يراهنون ويخططون لفشل مهمته ويترصدون تلك اللحظة التي تفشل فيها مساعيه للدفع في اتجاه تبني السياسة التي يطمحون إليها؟.. إن شرخا، ولو رفيعا للغاية، قد بدأ يظهر على هذا الجدار الضخم الذي بناه الناشطون من خلال مراكمة أدبيات سالبة كثيرة عبر فترة طويلة.. وإن كان يمكن تشبيه مواقف ناتسيوس، ديفيد شِن، وغريشون بأنها «خربشات» على هذا الجدار، فإن بعض المواقف الأخرى مثل التي يقفها البروفيسور محمود مامداني ذو الاصل اليوغندي وأستاذ العلوم السياسية بجامعة كولومبيا في تحديه لأصل الأطروحات التي يسوق لها «ناشطو دارفور» يراها البعض أكثر خطورة لأنها بمثابة السعي لضرب أساس الجدار.. وقصة صراع مامداني حاليا مع هؤلاء تستحق مقالا منفصلاً.. في محاضرته الأخيرة في جامعة جورج تاون في مارس 2009 قال ناتسيوس للحضور ما معناه أن أعضاء الكونغرس إنما يعارضون توقيع أي اتفاق مع الحكومة السودانية لأنهم يخشون ردة فعلكم «يقصد الناخبين».. وبالتالي فالدور عليكم أن تعدلوا مواقف الكونغرس.. ولكن حشد الرأي العام وتأليبه ضد أي انخراط أو تعاطي مع الحكومة السودانية كان نتيجة عمل منظم واسع تم فيه انفاق مئات الملايين من الدولارات وشاركت فيه المئات من المنظمات واللوبيات التي أشرنا إلى بعضها، ولن يتأتى بالتالي تغيير ذلك الاتجاه بالنوايا الحسنة فقط من جانب ناتسيوس أو ديفيد شِن وغريشون.. فهل من طريقة ليبصر الشعب الأمريكي من وراء الحجب التي يضعها على عينيه ناشطو دارفور؟ *دبلوماسي سوداني