وفي منحى آخر نحتاج أولا أن نعود لنؤكد على أن القصة القصيرة فن صعب رغم مظهره الودود فهو يواجه تحدي اختزال عالم بأسره يتضام في بضع صفحات معدودة.و لعل ذلك ما جعل هذا الجنس السردي إنجازاً تكنيكياً بارعاً ذا معمار فني متساوق. وعلى الرغم من أن آلام ظهر حادة يصعب جدا تصنيفها أدبياً وفق المواضعات السردية المعروفة كونها عصية على التأطير الشكلي و غير خاضعة لقوالبه الجاهزة و شروطه.فالأحداث مثلا تتخلق من فكرة فلسفية أو وجودية ينطلق منها النص ليؤسس نوعا من إعادة النظر في الإنسان و حقيقته. ومن هذه النقطة يراكم القاص الدوائر والخطوط لينفذ من ثقب صغير إلى نصه الواسع حيث يتنامى السرد دافقا مزدحما بالأفكار التي يجهد القاص في أن لا يربك بها مجرى السرد. في مسار سردي دائري يبدأ من نقطة ثم يستدير مستعيدا بدايات الأحداث و تحولاتها وصولا إلى النهاية/ البداية. و كذلك فإننا نتعرف على الشخصية المحورية من الجملة الأولى حيث تحضر تلك الشخصية بضمير المتكلم كحيلة يحتفظ بها القاص لنفسه بزمام السرد.و رغم تحفظي على منح صوت السارد المساحة الأكبر في مجمل النصوص إلا أن القاص قد اجتهد في استخدام هذه الذريعة الفنية للانسياب تحت جلد شخصياته وسبر أعماقها.و من الملاحظ أن التركيز قد وقع جله على المونولوج الداخلي أو المناجاة بينما نجد الحوار الخارجي في موضعين يتقاسما العامية و الفصحى. ولا زلت أصر على أن استخدام الفصحى في الحوار يفقده قدرته على التأثير وبالتالي يفقده قدرا من مصداقيته. على عكس العامية النابضة بروح الحياة اليومية. إضافة إلى دور العامية المقدر في إحكام النسيج القصصي و تماسك بنائه الداخلي وإسباغ المصداقية على الشخوص و الأحداث. و يقودنا ذلك تلقائيا إلى بعدي الزمان والمكان لنلاحظ أن الزمن يخضع بشكل كبير لمنطق الأقصوصة تهندسه التقنيات السينمائية مثل الفلاش باك و القطع و المونتاج لتثبيت اللحظة المعينة لابراز البؤر النصية الحساسة.أما المكان و رغم انه قد يبدو كحيز جغرافي محدود إلا انه يتسع ليصبح فلكا إنسانيا شاملا.نحس فيه بحضور المكان الريفي القروي اكثر منه مكان مديني. و رغم تبرم الأدب عموما من صلف المدينة و ضجرها و قيمها الزائفة ومبادئها المعطلة إلا أن كرم الله يفلح تجنب الوقوع في فخ الثنائيات الضدية و الصورة الرومنطيقية الساذجة للتقابل المنمط بين صورة المدينة و القرية. و على مستوى الشخوص لا يسعنا إلا أن نقف عند انتباهة الأستاذ صديق محيسي الواعية في رزنامة الأستاذ كمال الجزولي بتاريخ 10/4/2007 حيث يقول: «رؤية كرم الله السردية للأشياء و الكائنات تعد تحولا مهما إذ أننا لا نجد لها شبيها عدا ما ذهب إليه بشرى الفاضل من خلق شخوص موازية للبشر» وكنت قد أشرت في دراسة نقدية سابقة إلى أن سرديات بشرى الفاضل هي بالأساس قصص استبطان و تفلسف اكثر منها قصص أحداث و شخوص. و كرم الله في محاولته في الإبحار إلى أفق مغاير يقترب كثيرا من تلك التخوم و يشاكل العوالم البشروية بفلسفتها الطوباوية التي تحتفي بكل المخلوقات. حيث و بكلمات الأستاذ محمد الربيع في الوطن القطرية: «يعيد السرد الاعتبار إلى جذوة الأشياء و للتفاصيل و يخرجها من عزلتها في الكون». فمثلا يذكرنا--حمار الواعظ-- بحمار آخر في مجموعة بشرى الفاضل --ازرق اليمامة-- يقاسمه التظلم من جحود الإنسان و قسوته فيكون انتحاره غرقا بمثابة احتجاج جهير ضد رهق العالم. و كل هذا لا يتقاطع مع حقيقة أن كرم الله قد استطاع و من تجربته الأولى أن يرسخ مفرداته كقاص استطاع ابتداع أسلوبه و حكائيته الخاصة الشغوفة باكتناه السؤال الكوني الأبدي. و قبل الانتقال إلى محور آخر لابد لي ان اقف عند الدمج الخلاق بين الواقعي و الخيالي في نص -- رائحة الطمي-- حيث الجدة في أن الأحداث و المواقف ترسمها الرائحة. ما يستدعي للذهن رواية «العطر» للألماني باتريك زوسكند التي تحلل الطبيعة البشرية عبر بصمات الروائح. ولنجمع خيوط ما ذهبنا اليه يمكننا القول بأن الحبكة رغم كونها قد تبدو رخوة حسب المواضعات السردية و أن الشخوص وفق ملاحظة حامد بخيت الشريف في السوداني: «غالبا تتوقف عن التطور لمصلحة السرد-- إلا أن القاص قد عمل على تعويض عن ذلك بعنايته الجمة بالتفاصيل و دقة و براعة الوصف و الخيال الطفولي المدهش الذي لا يرضى بأقل من أن يتلمس الأشياء و يتذوقها و يتشممها بل و يفككها و يعيد تركيبها كما يشاء.ليمنح كائناته وجودا مبتكرا و حضورا أليفا تبدو معه منخرطة في واقعها مستوية في مصائرها بادق تفاصيل الوصف والتصوير.و لابد لنا ان نقف على رأي بشرى الفاضل في عموده تضاريس بتاريخ13/1/07 «ميزة كرم الله الأساسية تكمن في هذه العدسة المكبرة في مخيلته التي تقترب من الكائنات و الأشياء راصدة لها بدقة متناهية». و نعود مرة أخرى إلى إشكالية تصنيف آلام ظهر يعيننا رأي أستاذنا فضيلي جماع في الصحافة بتاريخ 1/8 عن لعبة التجريب السردية حيث تبدو نصوص كرم الله «أقرب إلى الخواطر وتداعيات الكتابة في لحظة تحرر من قيود الشكل و النمط». وبحثاً عن تفسير لاختلاط الكتابة بتداعي الأفكار والاعتمالات الداخلية والخواطر فان الملاحظة والتفرس يؤشران إلى أن تلك الظاهرة ترتبط بقوة باليفاعة الأدبية وهي بلا شك مرحلة طبيعية يمر بها الكاتب، حيث يمتلئ تماما بهاجس الكتابة لتأتي المحاولات الأولى مكتنزة بالتأملات والأفكار والخواطر. ولعل ذلك يفسر لنا أيضا اقتراب النص أحيانا من فخ الخطابية لنرصد تسلل بعض العبارات المثقلة بعبء الخطاب التقريري المباشر. ويأتي ذلك غالباً على شكل جمل زائدة كان الإلماح كافيا لتمريرها إلى القارئ الذي تزعم أسلوبية كرم الله على انه يراهن مسبقا على شفافيته في التلقي والتعاطي مع النص. ولكن و كما أسلفنا فان ذلك ما يلبث أن يتطور بتراكم الخبرة التي تشحذ أدوات المبدع لسبك عمل سردي مكتمل الأركان و الحضور و التأثير ليضع به بصمته الفارقة. ويستدرجنا ذلك لالقاء الضوء على بعض المحمولات الفكرية والفلسفية التي تشع و تتلامح بين ثنايا النصوص. ولعل أبرزها النفس الصوفي الذي يفعم أجواء النصوص بعبقه الخاص. والفلسفة المتعالية (الترانسيندتالية) بثقلها الفكري كرؤية رومانسية طوباوية للعالم تمجد كرامة و حرمة الكائنات وحقها في الحياة. و تشمئز من السجن المادي والمعنوي الذي يرزح فيه الإنسان. فنجد امرسون بميوله الروحية العميقة.و ثورو الذي اعتزل عالم اللهاث المادي، ليعيش مع المخلوقات الصديقة في كنف الطبيعة في قلب الغابة في خلوة تأملية دامت لسنوات.ووالت وايتمان الذي اجمع نقاده على انه يتحد مع كل شئ و لا يكف عن معانقة الاحياء و الموجودات من حوله. و استيفانز بإبداعه الرؤيوي و مقولته الرنانة «عليك أن تتمتع بطاقات غير عادية لتتمكن من رؤية العادي». ولا يسعني أن اختتم دون المرور بموباسان و رسالته الخطيرة لصديقه موريس فوكير بتاريخ 17 يوليو 1885 حيث يقول «إن الكاتب الذي يبهرني حقا هو من يحدثني عن حصاة أو جذع أو فأر أو مقعد قديم». وختاما فان (آلام ظهر حادة) قد قالت كلمتها، وأسلفت لنا يدها الإبداعية في محاولة للقبض على جوهر الرؤية الكلية النافذة و طرح الرؤى و الأفكار و التحليل و التفلسف بأسلوبية مطمئنة تأنف التفخيخ السردي و الخبطات الدرامية المبتذلة دون أن تفقد لغتها وانسها و جماليتها و عفويتها وانسيابية دفقها.