قالت الوكالات إن الصين وروسيا احبطتا في 7 يناير 2008م قراراً في مجلس الأمن قصد به إرغام السودان على تسليم أحمد هرون وعلي كوشيب لقضاء المحكمة الدولية التي تحاكم الآن الرئيس الليبيري السابق تشارلس تيلور في لاهاي .. وفي أنباء لبنان التي سبقت في العام الماضي أن المتهمين في جريمة اغتيال الحريري سيعرضون على ذات المحكمة، وهو أمر لم يتم حتى الآن.. ووصفت تلك المحكمة بأنها خاصة وتتسق مع قرار مجلس الأمن رقم «7571» المرتبط بتداعيات تلك الأحداث.. وعلى ذكر حادث الاغتيال نشرت صحيفة في السودان حواراً طريفاً يمكن إعادة صياغته على النحو التالي: ----------------------------- - هل سمعت الخبر؟ - ماذا حدث؟ - لقد اغتالوا رفيق الحريري. وبعفوية رد المستمع..!! الاغتيال جريمة.. واغتيال «رفيق» الحريري مؤسف ولكن المهم.. هل الرئيس الحريري نفسه بخير؟! ومثلما ترتبط الأوصاف بالأشخاص تسري ذات القاعدة على الأشياء.. فالمستمع في ذلك الحوار فصل بين الحريري واسمه وجعل بينهما برزخاً تحول به الإسم الى وصف لشخص آخر.. وعلى ذات الشاكلة يشهد السودان وعلى نهجه انحاء أخرى في العالم العربي انقساماً حاداً في النظرة الى هذه المحكمة الدولية على ضوء ما انعقد منها مثل محاكمة ميلوسوفيتش وما يجري الآن في لاهاي من جلسات متعثرة لمحاكمة الرئيس الليبيري السابق تشارلس وما يسعى اليه الغرب لمحاكمة الوزيرين أحمد هرون وعلي كوشيب. ولكن قبل ذلك.. لماذا انتقل ميلوسوفيتش ومن بعده تيلور الى لاهاي بينما حوكم صدام حسين في بغداد؟ لم يرتفع صوت واحد يعارض محاكمة صدام في بلده بينما يلتهب الغبار وتزلزل الأرض إذا رأى السودان محاكمة مواطنيه في أرضه! ان وقائع الزمان والمكان لهما علاقة وثيقة - كما سنرى- بحيثيات هذه المحكمة ومسعاها للوصول الى الحقائق العدلية المطلقة! وسنبين في هذا العرض ما إذا كان قضاتها يصدرون أحكاماً على أسس من القانون المطلق، أم أنها تدثر برداء سياسي إذعاناً لأوامر الدول الكبرى وخاصة الولاياتالمتحدة التي لا تعترف بالمحكمة أصلاً حماية لمواطنيها، بينما تستخدم كل عنفها وعنفوانها لجلب الأغيار اليها.. ولا يهم تناقض ذلك مع السفح الأسفل لأسس العدالة في دفاعهم عن العدالة الدولية التي يقول مؤيدوها إنها توفر ملاذاً آمناً يفزع الى حضنه الهاربون في أوطانهم من قضاء مدجن ينطق بأمر السلطان الذي بيده جماع الحل والعقد، ويطمعون أكثر من ذلك أن يأتي اليوم الذي يقضى القضاء الدولي من الديكتاتوريين الذين يطأون بأقدامهم على رؤوس شعوبهم. هل محكمة لاهاي هي الساحة المثلى لتحقيقها؟ أم انها مخلب قط لعدالة منقوصة تصدر أحكامها بانتقائىة بينة، وتدليس سياسي وإفتتان قانوني لا وجه فيه للحد الأدنى من العدالة؟.. فكأنما استبدل الجور المحلي بجور عالمي وتحت ذريعة عولمة القضاء. سنستعرض هنا تعليقات لكتاب غربيين راقبوا التجربة بقدر من الموضوعية بعيداً عن العواطف الملتهبة في عالمنا العربي.. ويلاحظ ان آخر المطلوبين لعدالة لاهاي هو الرئيس الناميبي السابق سام نيوما الذي قاد حرب التحرير في بلاده زهاء عقدين من الزمان حتى تحقق استقلالها في مارس 1990م. وتشمل دعاوى الاتهام ضده أكثر من عشر تهم.. أدناها.. جرائم ضد الإنسانية وتصفية المعارضين.. التعدي على الحياة العامة واحتكار السلطة.. إنها لائحة واحدة تلحق بكل من أريد له الوصول الى لاهاي. وملاحظة اخرى هي أن اكثر الملاحقين هم من افريقيا. وأن لائحة الاتهام تشمل الفترة التي سبقت الاستقلال. وتأتي هذه التهم في وقت تتهيأ فيه ناميبيا لانتخابات عامة يتوقع ان يفوز فيها حزب نيوما بأغلبية ساحقة.. فالقضية الحاسمة هي استعادة الأرض من مغتصبيها البيض على ذات الشاكلة التي حسم بها روبرت موغابي المسألة في زيمبابوي.. ان «4%» من الأوروبيين يسيطرون على «80%» من الأرض الزراعية يتداولونها منذ قرنين حين جاءت جحافل الغزو الامبريالي الى الجنوب الافريقي وأبادوا نصف قبيلة الهرورو في ناميبيا وهي كبرى القبائل وأجلوا ما تبقى منهم الى الجبال.. إن الحملة العنيفة على موغابي التي تشنها الميديا في الغرب لا علاقة لها البتة بالديمقراطية والعدالة.. إنها إعادة الأرض لمالكيها الأصليين وهذه قضية موازية تماماً لاغتصاب الصهاينة لأرض فلسطين. ويلاحظ ان التهم توجه الى نجوما الذي تخلى عن الرئاسة منذ خمسة أعوام بينما لم توجه تهمة واحدة لأي من البيض الذين ارتكبوا مجازر لا توصف في حق الوطنيين. والمعروف أن ناميبيا كانت مستعمرة ألمانية حتى العام 0291م.. وبعد أن خسرت ألمانيا الحرب الأولى عهد بإدارتها الى دولة جنوب افريقيا العنصرية التي طبقت فيها نظام «الابارتهايد».. وفي ظل هذا النظام قتل المئات وعذبوا واضطهدوا- ولكن الجنائية الدولية لم توجه تهمة واحدة لأي من مسؤوليه البيض وهم على قيد الحياة. وإن من أركان العدالة الرئيسية تجرد القضاة من أحكام مسبقة واستقلالهم وبسطهم العدل على القوي والضعيف دون أدنى حد من التفرقة.. فهل هذه المحكمة قابلة لتطبيق الحد الأدنى من هذه القواعد؟ وعلى ذات الشاكلة لم تكن مصادفة أن يحدد لويس مورنيو أوكامبو المدعي العام البرتغالي للمحكمة مطالبة الحكومة السودانية بتسليم وزيرها الحالي للشؤون الإنسانية أحمد هارون ومن وصفته بزعيم الجنجويد «العرب» على كوشيب لقضاء لاهاي.. وعلى ذات الادعاءات المزمنة.. جرائم حرب وإبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.. وفصل أوكامبو دعواه رقم «1553» للعام 2005م بأن هارون قام بتجنيد الجنجويد العرب الذين مارسوا سياسة الأرض المحروقة ضد السكان الأصليين من الأفارقة السود (Indigenous) وطردوهم من مساكنهم واغتصبوا نساءهم.. وحدد الفترة التي شغل فيها هارون وزارة الدولة في الداخلية من أبريل 2003م الى سبتمبر 2005م. رغم ان كل الإتهامات بالإبادة الجماعية وغيرها ضد هارون حدثت في الوقت الذي لم يشغل فيه الوزارة أكثر من عامين ونصف.. ولعل أكبر فرية في هذا الإدعاء أن هارون نفسه ينحدر من قبيلة افريقية صرفة وهو أسود الملامح بكل مقاييس الدارفوريين.. والأفارقة المتهم بإبادتهم هم من صميم أهله.. ولطالما استعمل اللون في قضية دارفور لإعطاء الصراع أبعاداً عنصرية.. وحتى القبائل العربية في دارفور لا سبيل لإنكار افريقيتها فهي من صميم أهل الأرض وليست غازية فيها.. ومن الملاحظ ان الصور المنشورة عن قبائل عربية في دارفور تعطي أشكالاً مشابهة لسكان الجزيرة العربية وتجرد ملامحهم من افريقيا وسواد بشرتها، وتصفهم التعليقات المتواترة بالتعالي والعزلة والعدائية. ومن هذا العرض العنصري جاء نسبة الجنجويد الى العرب.. ونعيد الى الأذهان هنا رأياً نقلته الشرق الأوسط اللندنية «17/8/2004م» قال فيه القائم بأعمال السفير الأمريكي السابق في السودان.. «نحن لا نرى العرب هم الجنجويد ولكنهم جزء منهم والحرب ليست بين العرب والافارقة، فأهل دارفور حدث بينهم تمازج ومن الصعب التمييز بين العرب والأفارقة، والواقع ان الجنجويد مصطلح يطلق في تشاد ودارفور علي قُطّاع الطرق الخارجين على القانون.. فهم عصابات تتناثر في بقاع مختلفة لا يجمعها إلا أهداف النهب.. وهم مثل سائر العصابات في العالم لا يرتبطون بقبيلة ولا لون ولا جنس ولا يفرقون في اصطياد ضحاياهم بين عربي أو افريقي، وعلى الرغم من التداخل الكبير بين ما يحدث في دارفور وتشاد فإن هناك صمتاً مدروساً ومطبقاً لا ترد فيه تشاد مطلقاً في الصورة بينما يرن الايقاع بدوي متواتر على دارفور، وعلى هذا السياق قالت مجلة دير شبيغل الألمانية «15/5/2004م»: «إن ميلشيات الرحل العربية «؟!» تهاجم المهجرين.. وتهدد أزمة دارفور بالانزلاق عبر الحدود لتشمل أقطاراً أخرى.. فالرئيس ادريس ديبي الذي تعيش قبيلته «الزغاوة» على جانبي الحدود السودانية التشادية لا يعمل إلا القليل لمساعدة أهله.. وفي «15/5/4002م» جرت محاولة انقلابية ضده ويعتقد ان أبناء الزغاوة كانوا وراءها لأنهم يطالبونه بموقف صريح يدعم القبيلة في دارفور». وفصلت مجلت (EIR) الصادرة من معهد شيلر بواشطن بتاريخ 6/8/2004م تداخل الأزمة بين البلدين على النحو التالي.. «دبر الرئيس ديبي الانقلاب الذي أتى به الى السلطة العام 1990م بمساعدة المثقفين من أبناء قبيلته الزغاوة من داخل دارفور وأدى استيلاء الزغاوة على السلطة الى هروب معاكس من قبائل مختلفة الى داخل السودان.. وهكذا بدأت كل قبيلة في تكوين ميلشياتها وتعتبر هذه البداية الحقيقية للجنجويد ويستحيل وصف هذا الصراع بأنه بين عرب وأفارقة.. لقد تمازجت القبائل الى الحد الذي يستحيل معه تحديد ما هو عربي وما هو افريقي». وتصمت الميديا الغربية صمتاً مطبقاً عن ذكر أي قبائل تشادية لجأت الى حدود السودان الغربية. وهكذا يمضي التزييف الإعلامي في حصر الجنجويد ب «العرب» وربطهم ربطاً وثيقاً بالحكومة السودانية دون أدنى إشارة لوجودهم في تشاد وارتباطهم بالقبائل الافريقية هناك.. وعلى ذات السمة لا تنطق جهة واحدة من الجهات التي تواصل التبشيع بقضية دارفور عن الصراع القبلي المسلح في داخل تشاد وتكوين كل قبيلة فيها مليشياتها التي تدافع عنها.. ويتوسع هذا المخطط المطبق الصمت في تشاد حال افريقيا الوسطى التي تفر قبائلها أيضاً محتمية من الصراع القبلي العنيف الى داخل الحدود السودانية.. وإنما يعود ذلك لتداخل القبائل وعدم اعترافها بالفواصل الحدودية الوهمية التي يظن أنها تفصل بين البلدان الثلاثة.. وفي البلدين لا يذكر شيء عن وجود جنجويد حتي لا ينتفي حصرهم فقط في العرب، إن صحيفة «دي تسايت» تعطي نموذجاً لجعل دارفور منطقة شر لا مثيل لها في العالم حيث قالت بتاريخ «1/3/7002م» نقلاً عما وصفتها بمصادر مأذونة لم تمط عنها اللثام «إن منتسبي المحكمة ظلوا يجمعون الوقائع على مدى عشرين شهراً من اللاجئين في تشاد وفي ظروف مناخية بالغة الصعوبة بلغت فيها درجة الحرارة «54» سنتغريد وكان الشهود مرعوبين لدرجة استجوابهم بأطباء نفسيين». إن الذين يشكون من درجة حرارة بلغت «فقط» «45» سنتغريد هم دون شك من الأوروبيين الذين لم يتعودوا على هذه المنطقة الساخنة في قلب افريقيا.. فإذا كان هذا رأيهم في الظروف المناخية العادية فكيف يمكنهم معرفة القبائل والتفريق بين من هو تشادي ومن هو من دارفور؟! وحتى لو تم مثل هذا الاستجواب الغريب الذي اختار المرعوبين نفسياً وسط مئات الآلاف من اللاجئين الأسوياء. فالقصد هنا هو إعطاء بُعد درامي للمأساة وتسويقها للفت الأنظار.. وبالطبع نلاحظ ذات المعادلة هنا.. دوي يصم الآذان في حال لاجئي دارفور، وصمت أخرس في حال اللاجئين الى دارفور والحدود السودانية الشرقية من افريقيا الوسطى وتشاد.. لماذا لم يجر هؤلاء استجواب القبائل التشادية الموجودة في السودان؟ وتؤكد صحيفة يونفه فيلت الألمانية 2/5/2006م أن تسليط الأضواء على دارفور لا شأن له مطلقاً بحقوق الإنسان والمزاعم «الأخلاقية» الأخرى، وتشير في حال تشاد بقولها.. «الولاياتالمتحدة وفرنسا يعولان على رئاسة ديبي ولا تهمهما في علاقتهما به مسألة الديمقراطية أو حقوق الإنسان.. فهناك ارتباط المسألة بالصين التي تستورد «25%» من نفطها من افريقيا وأكبر حجم منه من السودان.. ويستثمر ديبي هذا الوضع ويحذر الغرب من أن وصول المعارضين له الى الحكم سيؤدي الى تغييرات راديكالية في وضعية النفط التشادي.. وأن مائتي ألف برميل من نفط تشاد الذي تصدره عبر الكاميرون الى أمريكا سيتحول الى ميناء بورتسودان ويصدر الى الصين». وأكد هذا المفهوم الرئيس الفرنسي ساركوزي في مؤتمره الصحفي الذي عقده في باريس 20/7/2006م بحضور رئيس الوزراء البريطاني غوردون براون حين قال: «لقد قابلت الرئيس ديبي أمس وقال لي لابد أن تمارسوا ضغطاً ليس فقط على الحكومة السودانية بل أيضاً على الثوار» وواضح ان القصد الأساسي هو موضوع النفط. برلين