لأول مرة في مشاركاتي في الليالي الشعرية في (جبروت هذا الوطن) أجد نفسي مكتظة عن القراءة وصرفة عن الانشاد ولم يكن ذلك عن تخمة من مثل هذه اللقاءات فالمرة الأخيرة التي شاركت فيها كانت منذ عامين في تكريم اتحاد الكتاب السودانيين لصاحب الخلاسية محمد المكي ابراهيم، الشاعر والاستاذ والدبلوماسي، وهذه الصفة الأخيرة أثبتها جريا على توصيفات النقد السوداني الذي يتعدى وراء صفة الشاعر باحثاً عن مناقب داعمة لها، ولا اعد ذلك إلا من قبيل الذم الذي يشبه المدح. ولعل هذا «التصييع» للشعر كان الباعث الخفي لعزوفي عن التواصل تلك الليلة واكتفيت بإلقاء نص واحد هو «نشيد الغرق» ومقدمته المتأخرة قراءة «أعباء خفير النائمة» وجدتني بعدها أغادر المنصة مضرباً عن الاسترسال والنصوص تحت يدي تتوق للبوح. وصدقاً، أنا لست ممن تعتريه هذه الحالات المزاجية المألوفة عن الشعراء والملتصقة بأسطورتهم، فما الذي حدث؟ أولاً تجدر الاشارة إلى ان تباشير هذا الندى الشعري كان تؤذن لي شخصياً بحبور كبير، فاقع وحميمي ودافئ. وتوفرلي مجرد رؤية المشاركين قدراً كبيراً من هذه المشاعر الخاصة والمضيف - منظمة رد الجميل - أسفرت عن ألق مؤسسها، محجوب شريف، متعه الله بالعافية. ولم يدخر ملائكتها الطوعيون من الجنسين جهداً في الاعداد لتفاصيل ليلة متميزة احتفاء بيوم الشعر العالمي. والشعراء نفسهم كانوا من افضل شعراء السودان، عالم عباس وخالد حسن عثمان ونجلاء التوم وعبد الله الزين والصادق الرضي وبابكر الوسيلة. إذن ما الذي ألقى بي إلى التنغيص وقاد عقيرتي الى الاحتباس؟ قطعاً لم يكن الدافع ماورائياً خفياً بل كان ملموساً، جسداً، ومباشراً يمكن رصدهُ احصائياً، كان السبب هو احجام الجمهور، لقد حضر الشعراء وقد اصطحب كل منهم صديقاً أو صديقين شكلوا حضور تلك الليلة وقد انعكس ذلك على صوت الشعر فبح كما: بح على صدور البنات بوق الزنابق وخسف ضوء الشعر كما: (خسف قمر الصدى بصوت الجميل المراهق). وواقعنا الثقافي لا يزال: (يواري بأوراقه الصفر جثث الحدائق). لا اشغلكم بهذه الاقتباسات التي فرضت نفسها على المقال وأخلص إلى ان غياب الجمهور كان مقلقاً وميئساً ونذيراً بالصحراء وتيهها الأربعين، إن خبرات التيه أربعينية يوبيلية بحساب الزمن، وإذا ارتدنا وعي التيه فلن ننجو منه الا بعد أجيال لن نراها ولن ترانا، هذا اذا قيض لتلك الاجيال أدلاء يخلصونها بطاقات المعجزة، إرادات المخلصين، وهيهات.