اختار السودان النظام الرئاسي ونظام الولايات بطابعه الامريكي القسمات، الا ان التجربة السياسية البريطانية لا تزال مصدراً لتأثير كبير بين المثقفين السودانيين. بوسع المرء ان يتعجب لذلك لأن بريطانيا نفسها جنحت نحو النموذج الامريكي. فرئيس الوزراء السابق توني بلير اتهم بأنه كان يتصرف كرئيس جمهورية وليس رئيس وزراء (مثلاً: اهتم بشكل مباشر بالسياسة الخارجية تجاه الشرق الاوسط وايرلندا واوروبا ولم يتركها لوزير الخارجية وحده). كما ان بريطانيا اعترفت باللا مركزية بالنسبة لويلز واسكتلندا بعد قرون من وأد اللغات المحلية والخصائص الاقليمية. بلغ الامر ان ولي العهد المستنير القى خطاباً بلغة «الويلش» التي استهجنها اسلافه وكادوا يفلحون في ازالتها من الوجود. توفر التجربة السياسية البريطانية الفرصة لاقتباس ممارسات من أهمها مناخ الوفاق - رغم الاختلاف - الذي رأينا طرفاً منه في محاضرة قدمها زعيم المعارضة ديفيد كاميرون في مركز ابحاث شاتام هاوس في أول ايام شهر ابريل الجاري. مناسبة المحاضرة وعنوانها: بداية اجتماعات حلف «الناتو» في رومانيا. حرص كثيرون على الحضور لأن استطلاعات الرأي منحت حزب المحافظين الذي يقوده ديفيد كاميرون تفوقاً على حزب العمال الحاكم فزاد ذلك من وزن آراء زعيم المعارضة. اللفتة الديمقراطية المحمودة ان المحاضر لم يصل وحده بل حضر معه (وجلسا على المنصة) وزير الظل للخارجية ووزير الظل للدفاع. كما جلس في الصف الأول دوجلاس هيرد وزير الخارجية السابق في حكومة المحافظين التي قادتها مارجريت تاتشر. وبما ان وزير الظل للخارجية هو وليام هيج (الذي كان زعيماً للمعارضة في الماضي) فإن ماضي الحزب في الحكومة والمعارضة برز مع حاضره المتطلع للسلطة مرة اخرى. حرص ديفيد كاميرون في محاضرته على الاستشهاد بدوجلاس هيرد حينما قال في تشبيه مأخوذ من رياضة الملاكمة ان بريطانيا تلاكم في وزن اعلى من وزنها بفضل الكفاءة والتدريب والمستوى الرفيع. اقترح اثناء المحاضرة مراجعة عضوية مجلس الأمن لاضافة دول صاعدة مثل الهند والبرازيل ثم طلب من وليام هيج ان يعلق فاضاف المانيا واليابان. لم يذكرا تمثيل افريقيا في المجلس. قال ديفيد كاميرون ان ملف الناتو الذي اسس عام 9491م بدأ كدرع واقٍ ضد التوسع السوفيتي وهو لا يزال مبرراً الآن لأن انهيار الاتحاد السوفيتي فتح الباب امام مخاطر جديدة منها الارهاب وضرورة الدفاع عن قيم الغرب الديمقراطية والمناخ البيئي المتغير وانتشار الاسلحة النووية. قال إن الحلف ليس موجهاً نحو روسيا ومن الضروري اقناع روسيا بذلك. واصل هذا المنطق فقال إن الحلف اذا اخفق في افغانستان فإنه سينهار ويتلاشى لذلك فمن الضروري استمرار الالتزام بمواجهة الطالبان. قال ان بعض اعضاء الناتو يضعون شروطاً لاسهامهم منها ان يقاتل جنودهم في مناطق قريبة من المستشفيات، بينما يرفض البعض الآخر ان يسهم مالياً. قال إن الارهاب ينبغي ان يحارب في منابعه وعلى رأس تلك افغانستان حيث تدرب الشبان البريطانيون الذين فجروا قطارات الانفاق في لندن. سئل عن موقفه من عضوية تركيا في الناتو، والرفض المتكرر لعضويتها في الاتحاد الاوروبي فقال انه يتفق مع الحزب الحاكم في ضرورة انضمام تركيا للاتحاد الاوروبي. سئل عن سر تصويته لغزو العراق فقال إنه صوت مع الغزو لاطاحة صدام حسين ونشر الديمقراطية لكنه يطالب بتحقيق في ذلك الآن لأن الملابسات التي افضت الى الغزو لم تكن - كما اتضح لاحقاً - كاملة. كما ان بعض الاخطاء اقترفت بعد الغزو. قال إن رئيس الوزراء وعد باجراء تحقيق بعد انسحاب القوات البريطانية من العراق وهذا سراب لأن قوات ما ستبقى في العراق لفترة طويلة في المستقبل. جاء ذكر الصين والسودان في المحاضرة. قال إن ثقل الاقتصاد العالمي يميل نحو آسيا وان الصين كلما كبر اقتصادها كبرت معه مسؤولياتها الدولية وهي ترى ذلك الآن عملياً لان متمردي السودان هاجموا بعض المنشآت النفطية الصينية. سئل عن تدخل الناتو في السودان فتفادى الاجابة عن السؤال. تحدث ديفيد كاميرون بثقة وباداء ارتكز فيه على خلفيته الاعلامية ولا يستبعد ان يكون قد اجرى بروفة للتأكد من حسن الالقاء (كما يفعل كثير من البرلمانيين والسياسيين في اوروبا والولاياتالمتحدة). ما قاله عن الهدف الجديد للناتو لم يكن مقنعاً فالارهاب ليس لديه جيش نظامي عالمي مثل الاتحاد السوفيتي السابق فكيف يستلزم التصدي له جيوشاً دولية تقليدية؟؟ اذا اختلفت طبيعة الصراع فكيف تظل الوسائل كما هي؟ ثمة حاجة لشرح اضافي في هذا الصدد. محاضرة مفيدة مليئة بالافكار التي لا جديد إلاّ في طريقة عرضها.