حتى بعد أن فقدت بريطانيا امبراطوريّتها ما زالت هذه الجزيرة الصغيرة تجر ذيول الخيلاء في العالم كأنّها قوة عظمى، ولعلّ قوّتها الاقتصاديّة ونفوذها الثقافي ومتانة ترسانتها النوويّة وعلاقتها الاستثنائيّة بالولاياتالمتحدة الأمريكيّة من الأسباب التي سهّلت على هذه الدولة الصغيرة التمتُّع بنفوذ يفوق حجمها الطبيعي. غير أن الشمس التي لم تغب قط عن الامبراطوريّة البريطانيّة باتت تلقي ظلالاً طويلة على ما تبقى من الطموحات الامبرياليّة البريطانيّة لتجبرها على إعادة النظر في دورها تجاه العالم ربما ك «بريطانيا صغرى» إن من أهم أسباب تقزُّم الدور البريطاني الانهيار الاقتصادي الذي تزامن مع الأزمة الاقتصاديّة العالميّة، إذ تضاعف الدين العام ليصل الى مستوى قياسي ليبلغ 100%من الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات الخمس الماضية بحسب إحصاءات صادرة من صندوق النقد الدولي، في وقت يتوقّع فيه المعهد الوطني للدراسات الاقتصاديّة والاجتماعيّة أن عودة مستوى الدخل الفردي إلى معدّلات العام 2008 ستتطلّب ست سنوات على أقل تقدير، وسيؤثِّر هذا الانهيار الاقتصادي على كل مفاصل الحكومة، إذ سيتم تخفيض ميزانيّات وزارات الدفاع والخارجيّة والكمنولث، الشئ الذي سيُضعف قوّتها العسكريّة والدبلوماسيّة، إذ لن يتمكّن رئيس الوزراء الحالي «غوردن براون» أو حتى حكومة المحافظين بقيادة «ديفيد كميرون» المُتوقّع فوزُها في الانتخابات التي ستُجرى في غضون العشرة أشهر القادمة، لن يتمكّنوا من فعل الكثير. ويقول «وليم هيغ» نائب «ديفيد كميرون»: ستفقد بريطانيا مع مرور الوقت النفوذ الذي اعتادت على ممارسته على الساحة الدوليّة. إن ظهور الاقتصاديّات العملاقة مثل الصين والهند، وبحث الولاياتالمتحدة الأمريكيّة عن شركاء وتحالفات جديدة، سيقلِّص الدور البريطاني في الساحة الدوليّة لا محالة، بالرغم من الدور الذي لعبه رئيس الوزراء السابق توني بلير للمحافظة على العظمة البريطانيّة عن طريق ربط بريطانيا بحروب الولايات المتّحدة الأمريكيّة في كل من أفغانستان والعراق، إلا أن هذه السياسة قد أضرّت باستراتيجيّة بلير في الداخل، فازداد النقد البريطاني إزاء خضوع لندن لواشنطن. وقد يكون بلير قد أجّل الأمر المحتوم ليس إلا، فتراجُع النفوذ البريطاني هو نتيجة الأحداث العالميّة، وبنفس نمط التضاؤل النسبي البطئ لنفوذ الولايات المتّحدة الأمريكيّة التي تعيش اليوم نفس الوضع الذي كانت عليه بريطانيا في أوج عظمتها. وتشير الإحصاءات إلى أن الاقتصاد البريطاني سيعاني من أعمق وأطول ركود قد يشهده أي اقتصاد متقدِّم آخر، إذ انخفضت الأسعار بشكل لم يسبق له مثيل منذ (50) عاماً وارتفع عدد البريطانيين الذين يحصلون على إعانة بِطالة من 1.3 مليون في العام 1999 إلى أكثر من مليونين، إذ تعاني بريطانيا أسوأ حالة ماليّة بين الدول الكبرى بسبب الإفراط في الإنفاق والغرق في بحر الاقتراض. إن بريطانيا هي الدولة الصغيرة الوحيدة التي حاولت في العصر الحديث لعب دور يفوق حجمها الحقيقي على الساحة العالميّة، إذ اعتبرت رئيس الوزراء البريطانيّة السابقة «مارغريت تاتشر» نفسها القائدة الثانية على الساحة العالميّة بعد رونالد ريغان أثناء الحرب الباردة من خلال مساهمتها في الإطاحة بالاتحاد السوفيتي، لتفتح الباب أمام الرأسماليّة، وخلال العقد الذي أمضاه بلير في منصبه من عام 1997 وحتى العام 2007 خاضت بريطانيا ثلاثة حروب في كل من كوسوفو وأفغانستان والعراق واحتلّت المرتبة الثانية في المشاركة العسكريّة بعد الولاياتالمتحدة الأمريكيّة. وبالرغم من أن بريطانيا تتمتّع بأكبر الميزانيّات العسكريّة في العالم إلا أن ميزانيّة الدفاع ستنخفض بنسبة 11% خلال الست سنوات القادمة، الشئ الذي سيكون له تداعيات مهمّة على حلف شمال الأطلسي (الناتو) الذي أضعفته ضبابيّة مهمته بعد الحرب الباردة، كما أن تراجع بريطانيا عن تعهداتها قد يغيِّر إلى حد كبير التحالفات عبر الأطلسي من خلال تعزيز نفوذ فرنسا خاصّة بعد تنامي المعارضة البريطانيّة الداخليّة للحرب على العراق وأفعانستان، إذ أكد معظم المشاركين في استطلاعات الرأي الأخيرة أن الحرب في أفغانستان لا يمكن الانتصار فيها، وأن على الحكومة سحب القوّات البريطانيّة فوراً خاصة بعد تذمُّر الجنود والضباط من نقص المعدات، إذ اضطُر الجنرال «ريتشارد دانات» قائد الجيس البريطاني للاستعانة بمروحيّة أمريكيّة أثناء زيارته للقوّات البريطانيّة في محافظة «هلمند» بسبب عدم توفُّر مروحيّة بريطانيّة. وبالرغم من ضعف الميزانيّة الموجهة نحو تطوير السلاح النووي البريطاني وتحديثه إلا أن على بريطانيا المحافظة على درعها النووي الرادع من أجل المحافظة على مقعدها بمجلس الأمن والعمل على تكثيف نشاطها الدبلوماسي الذي بدأ يضعف هو الآخر بسبب تخفيض ميزانيّة وزارة الخارجيّة والكمنولث اللذين خفّضا عدد موظفيهما من (6.000) إلى (4.000) مع تكهنات بتخفيض ميزانيّة الوزارة من ملياري جنيه إلى 1.6 مليار في السنة الماليّة المقبلة. أيام عز مدينة لندن تبلغ نهايتها هي المدينة المحاطة بأسوار منذ العهد الروماني، رمز القوّة البريطانيّة ومصدر التمويل لأوائل وأبرز الشركات الدوليّة، فقد تفوّقت لندن على «وول استريت» من خلال الاستحواذ على القطاع المالي الأسرع نموّاً، إلا أن من سوء حظ لندن أنّها أكثر القطاعات تضرُّرا من الأزمة الاقتصاديّة، الشئ الذي جعلها تنتظر مجموعة من القوانين الوطنيّة والإقليميّة والعالميّة التي من الُمتوقّع أن تضعف دورها لسنوات أخرى، ويبدو أن بريطانيا كانت تخشى حدوث شئ مماثل عندما رفضت الانضمام إلى البنك المركزي الأوربي، إلا أن ألمانياوفرنسا تبدوان عازمتين على كبح إسرافات الرأسماليّة «الانجلوساكسونيّة» وتوجيه حصة أكبر من الأموال العالميّة نحو أيد أوربيّة أكثر حذرا . إن على رئيس الوزراء الذي سيأتي بعد براون .. ليس فقط إعادة تحديد موقع بريطانيا وسط بلدان العالم بل إحياء روح التفاؤل والأمل والثقة بالنفس التي كانت تسود بريطانيا في السابق.