طوال الأشهر الأخيرة تصدرت الجولات التي يقوم بها رئيس الحركة الشعبية وحكومة الجنوب الفريق سلفاكير ميارديت للدول العربية الأنباء، حتى يكاد يخيل للمراقب أن الرجل قد أضحى أحد الزعماء الذين لا ينقطع ترددهم عن القاهرة أو العواصم العربية المختلفة، إذ قام كير مع عدد من قيادات حزبه وحكومته بزيارات مهمة لكل من قطر والإمارت ومصر (هناك أنباء عن زيارة وشيكة له للكويت) اتخذت مباحثاته فيها طابعا إقتصادياً قوياً خاصة في كل من قطر والإمارات، أما في القاهرة التي تظل مشدودة الى الشأن السوداني بخيوط إستراتيجية لا فكاك لها منها، فقد حمل رئيس الحركة الشعبية معه التطمينات المعتادة للمصريين حول مخاوفهم المتعلقة بوحدة السودان، وأثر التطورات فيه علي مصالحهم وأمنهم القومي. إنفتاح قديم والانفتاح الحالي للحركة الشعبية على الأطراف المؤثرة في العالم العربي ليس طارئا كما يبدو، فما يقوم به سلفاكير الآن سبق أن قام به بدرجة أقل وفي ظروف أخرى الراحل د.جون قرنق صاحب القرار الإستراتيجي بعدم قطع الإتصالات مع الدول العربية، ويقول القيادي بالحركة وليد حامد (الحركة تحاول الإنفتاح على الدول العربية حتى من قبل توقيع إتفاقية السلام الشامل، لأهمية دور هذه الدول في الشأن السوداني). وبعد الإتفاقية تضاعفت هذه المجهودات لأجل حشد الدعم العربي للإتفاقية وللمساهمة في المشاريع التنموية التي تقود الى استقرار السودان، وتقود الى المساهمة في وحدة السودان، وعلى الرغم من أن وحدة السودان كما هو معروف ومعلن ليست محل إتفاق بين تيارات الحركة المختلفة، إلا أن الإنفتاح على الدول العربية عموماً ودول الخليج الغنية على وجه الخصوص، ليس محل نزاع بين تلك التيارات كما يؤكد وليد حامد ( ظلت الحركة موحدة باستمرار تجاه أهمية خلق جسور مع كل الدول العربية حيث أستطعنا خلق علاقات صداقة مع عدد منهم في أيامنا الأولى وحتى هذه اللحظة ، فهنالك تفاهم عميق وواسع حول هذه الإتجاه بين كل القيادات والهيئات). ويمكن إدراك أسباب هذا «التفاهم العميق الواسع» بالنظر الى أزمة الموارد التي تعاني منها حكومة الجنوب، التي لا يكاد نصيبها من الدخل القومي الذي تحصل عليه من الخرطوم يفي ببنود مرتباتها ومنصرفاتها الأمنية كما يؤكد د. صفوت فانوس أستاذ الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة الخرطوم، كما أن الحركة من واقع سيطرتها شبه المطلقة على مقاليد الأمور في الجنوب، تدرك أن الحكم عليها بالنجاح أو الفشل مرتبط على نحو وثيق بمعيار أساسي هو التنمية الإقتصادية، واذا أخذنا في الإعتبار - يضيف فانوس - الطفرة الهائلة في الفائض النقدي لدى الدول البترولية بسبب الإرتفاع الحاد في أسعار النفط العالمية، فإن رأس المال الخليجي الذي تحرر من أبعاده الآيدلوجية أخيراً - يمكن ملاحظة هذا التحول بالنظر الى المعونات الكويتية الباكرة التي اكتسبت طابعاً دعوياً بخلاف الحالية- يبرز كحل سحري يعاد إكتشافه في ظل ظروف جديدة تلوح ملائمة جدا خاصة مع بروز دور رأس المال الخليجي في الشمال ضمن مشاريع البنوك والإتصالات والعقارات الراهنة، (وصف بأنه تقاطع مصلحة طرف عربي متعطش لإيجاد منافذ للإستثمار، وحكومة بلا موارد تبحث عن مستثمرين) كما يضيف د.فانوس. الصناديق تسهم بفاعلية من جانبها أعادت الدول الخليجية أيضا إكتشاف السودان كأرض واعدة للإستثمار إذ قامت بتقديم تسهيلات و تمويل مشاريع تتراوح بين قطاع الفنادق والسياحة الناشئ الى مشروعات البنية التحتية وشبكات المياه. ولقد ذكر سلفاكير في زيارته للإمارات أن حكومته تتجه للإستفادة من التجربة الإماراتية في مجال الصناعات البتروكيماوية ومجالات أخرى، كما أن الصناديق العربية والخليجية تعهدت وفق تقارير هربية رسمية بتنفيذ وتمويل عدد من المشروعات إذ يمول الصندوق العربي للإنماء الإقتصادي والإجتماعي مشروع دعم شبكة المياه في الجنوب بمنحة تبلغ خمسة عشر مليون دولار، أضافة الي تمويله لطريق (الرنك- الفوج) بمبلغ خمسة وسبعين مليون دولار فيما يتكفل الصندوق السعودي للتنمية بمبلغ مماثل، ويشمل التمويل السعودي طريق السلام (الرنك- ملكال) الذي يربط شمالي البلاد بجنوبها بتكلفة ثلاثين مليون دولار، وتشير التقارير الى أن إجمالي الإستثمارات العربية في السودان بأكمله يبلغ أحد عشر في المئة من جملة الإستثمارات البينية العربية في الفترة الممتدة بين العامين (1995-4002م). وفي حديث عبر الهاتف يضيف وليم أكوج الأمين العام لاتحاد أصحاب العمل بالجنوب لتدفق الإستثمارات العربية (البلد خرجت من الحرب والخارج من الحرب يتعطش للدعم وللتنمية) ويجيب الرجل عن سؤال «الرأي العام» حول رأي الأوساط الإقتصادية والتجارية الجنوبية فيما يجري بقوله (لا يوجد يا عزيزي من يرفض التنمية). ويعود تاريخ الإهتمام العربي بجنوب البلاد الى السبعينات التي شهدت الزيارة الفريدة والأولى من نوعها لزعيم عربي الى جنوب البلاد والتي قام بها الشيخ الراحل زايد بن سلطان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، وبعد اتفاقية السلام الشامل إزداد الإهتمام بجنوبي البلاد حيث زار السيد عمرو موسي الجنوب كأول أمين للجامعة العربية تطأ قدماه الأقليم، أما الدور المصري فتكمن قراءته على ضوء العلاقات التاريخية ووضعية مصر السابقة في السودان، وإهتمامها المستمر بالبلاد التي تعتبر النخبة المصرية أن التطورات فيها ذات أثر عميق على الأمن القومي المصري ، ومصر التي لم تمل من لعب دور المهدئ في الساحة السودانية الحافلة بالتوترات والنزاعات تحاول دائما الإحتفاظ بعلاقات جيدة مع الجنوبيين، حفاظاً على وحدة البلاد وإستقرارها كما تقول دائماً، وحفاظا على مصالحها أيضا كما يرى مراقبون، ويقول السيد خالد سليم القنصل المصري في جوبا ل «الرأي العام» عبر الهاتف (مشروعات التنمية التي تقوم بها مصر في الجنوب تصب في إتجاه وحدة البلاد) وتقوم مصر بإنشاء أربع محطات لتوليد الكهرباء في الأقليم مثل محطة واو التي شارف العمل فيها على الإنتهاء، كما يجري العمل لإفتتاح المستشفي المصري بمدينة جوبا الذي تبلغ تكلفته ثمانية ملايين ونصف المليون دولار إذ وصل جزء من أطبائها الأربعاء الماضي ووصلت حتى أمس الأول ثلاث طائرات من أصل ثماني تحمل المعدات وخمسة وسبعين طناً من الدواء المجاني الى جوبا عاصمة الإقليم، وتقدم مصر منحة سنوية لاكثر من ثلاثمائة طالب جنوبي كما تعمل على إنشاء ثلاث مدارس كما يؤكد قنصلها في جوبا. لقد كان تجاوز الحركة لحساسيتها أزاء العرب والإسلام في سبيل مصلحتها الإقتصادية، وتلاشي البعد الأيدولوجي لرأس المال العربي هو الأساس غير المعلن للتقارب الحالي بين الحركة والعرب، كما يرى د.صفوت فانوس إذ وجد كل طرف ضالته في الآخر، وإذا كان الإقتصاد هو المحرك القوي للسياسة وعامل يخلق مصادر القوة السياسية كما يقول د.مختار الأصم أستاذ الإعلام بجامعة الخرطوم فأن التقارب الحالي القائم علي أسس إقتصادية يفتح الطريق أمام التساؤل حول إمكانية وجود نفوذ عربي على القرار السياسي في الجنوب مستقبلا ورغم أن الحجم الحالي للمصالح الخليجية والمصرية هنالك لا يرقى لكونه إختراقاً، إلا أن الإقتصاد يظل وجهاً آخر من وجوه السياسة.